على مدار الأعوام الماضية، شهد مجتمع حقوق الإنسان والمناصرة تزايداً في مناهج النقد لمجال التثقيف بحقوق الإنسان. فبالإضافة إلى التركيز على المحتوى، عادة ما يصب المعلمون في هذا المجال تركيزاً أكبر على ممارسات حقوق الإنسان والتربية الفكرية لها. ومن تجربتي وملاحظاتي الشخصية التي شهدتها خلال عملي لمدة خمس سنوات، قمت فيها بالتدريس في عدة مؤسسات، تراوحت من حكومية إلى غير حكومية وجامعات وكليات. فلطالما عمدت إلى مراعاة الفروق في مادتي العلمية لتناسب مختلف السياقات واللغات وأساليب التعليم واستراتيجياته المختلفة.
وبدلاً من إعادة تكرار الدروس المستفادة من هذه التجربة، يهدف هذا المقال إلى توضيح ما اضطررت إلى حذفه بكوني – أكاديمية وناشطة وصحفية – من مخزوني المعرفي حتى أُصبح أكثر تأثيراً وفاعلية في مجال التثقيف بحقوق الإنسان.
إلى جانب هذا، طورت مناهج فصولي الدراسية من التركيز فقط على انتهاكات حقوق الإنسان إلى مفهوم الحقوق بشكل متكامل وشامل. فعند وضعي منهجاً لفصولي الدراسية، انظر إلى الأمر نظرة شمولية. واتخذ مرحلة حرجة باعثة على الأمل كنقطة انطلاقي، فاختار مجموعة من النصوص (مزيجاً من النصوص الأكاديمية والصحفية والفنية)، ثم أبدأ في وضع المهام الدراسية التي تدفع الطلاب إلى التساؤل: ما هي الصورة التي سيكون عليها مجتمعنا، لو أصبحنا مجتمعاً يحترم حقوق الإنسان؟ من هذه النقطة أتقدم مع طلابي في محاولة لاستطلاع العقبات التي تقف في مواجهة تحقيق هذه الصورة من العالم، وكيف يمكننا مواجهتها بفعالية. بمعنى، أنني أحاول أن يرتكز المنهج الذي أقدمه لطلابي على رؤية ونموذج طموحين، بدلاً من التركيز على المشكلات وعجزنا أمامها: أركز على نقاط قوتنا وحدودها ومنظورنا، وما هو المطلوب لبناء مؤسسات وثقافات تقوم على احترام حقوق الإنسان ورعايتها؟
باختصار، في تلك الأيام القاتمة، لابد لفصول التثقيف بحقوق الإنسان أن تكون فساحات مثمرة لبحث الاستراتيجيات وزرع الأمل. وهذا لا يمكن أن يتم بالتركيز على المحتوى الأكاديمي فقط، بل يعتمد على استراتيجية التعليم ذاتها.
فكما حاول باحثو دراسات السكان الأصليين والحركات النسائية (وباحثو الحركات النسائية للسكان الأصليين) باستمرار أن يؤكدوا: النظرية والممارسة والمنظور عوامل متداخلة ومتشابكة. وتلك العوامل تحدد الأسئلة التي يمكن طرحها أو السكوت عنها وأي الجماعات أو الأفراد يستحقون أو لا يستحقون الاهتمام والتعاطف والدعم -وأي الجماعات أو الأفراد يتم تهميشهم وبالتالي يصبحوا غير مرئيين.
وكل هذا لا يمت بالمحتوى الأكاديمي أو أسئلة البحث بصلة: فالفصل الدراسي أيضاً هو ساحة الممارسة والأداء. كيف يقوم المعلمون بتمثيل أنفسهم وطريقة تعاملهم مع الطلاب، يصبح النموذج الذي يتبعونه في التعامل مع بعضهم البعض ومع العالم الخارجي أيضاً. وحتى أبسط التصرفات والأفعال التي يقوم بها العاملون بمجال التدريس مثل حفظ أسماء طلابهم، يحدد شكل المساحة الممنوحة لهؤلاء الطلاب وتوقعاتهم لكرامتهم الإنسانية.
ولكننا كمعلمين علينا أن نغير جذرياً مفهوم العملية التعليمية نفسها. ففي فصولي الدراسية على سبيل المثال، يقوم الطلاب بكتابة منشورات أسبوعية على الإنترنت حول قراءاتهم يوضحون فيها أفكارهم وآرائهم، ويختتمونها بطرح سؤال على زملائهم في الفصل الدراسي. جميع الطلاب مكلفون بإجابة سؤال واحد أسبوعياً. لأن "العملية التعليمية" بناء مشترك، يبدئه الطلاب ويعملون على تطويره. وأقوم بهذا لثلاثة أسباب هي:
- لأن هذه الطريقة تعمل على معادلة ديناميكيات القوة بين الطالب والمعلم، وتعمد إلى تشجيع العملية التعليمية القائمة على الأقران بشكل يتناسب مع الأرض الواقع والثقافة.
- في غالب الأمر، "درجات المشاركة" في الفصل الدراسي تكافئ الطالب على المشاركة داخل الفصل، إلا أن كثير من الطلاب يتحدثون اللغة الإنجليزية كلغة ثانية ويحتاجون إلى وقت أطول لتكوين إجابتهم بهذه اللغة؛ وهناك طلاب آخرون يمتازون بالخجل أو غير اجتماعيين. استخدام وسائل التفاعل عن طريق الإنترنت، يوسع نطاق المشاركة الطلابية.
- تلك الطرق تُمكنني كمعلمة من بناء فصولي الدراسية وفقاً لاحتياجات الطلاب. وهذا عنصر أساسي وبسيط من الديناميكيات التي ساعدتني على إعادة هيكلة نموذج القوى في فصولي الدراسية وتعزيز المساءلة في نفس الوقت.
ولكن لا يزال الفصل الدراسي، مكاناً واحداً للتعلم – وجدرانه المقيدة لازالت محض التساؤلات. فإحضار ضيوف متحدثين ومنح الطلاب درجات إضافية لحضورهم مناقشات وندوات خارج حجرة الفصل الدراسي ومطالبتهم بالقيام بلقاءات وحوارات مفتوحة مع أفراد المجتمع "على أرض الواقع"، كل هذه وسائل مهمة لتوسيع أفق ونطاق عملية التعلم فلا تبقي محصورة وحبيسة جدران الفصل الدراسي. فزميلتي، كريستي كنيون بجامعة وينيبيغ وزميلي ويليام سيمونز بجامعة أريزونا، كلاهما يقومان بتنظيم فصول دراسية ميدانية (سواء إن كانوا يعيشون في عالمين مختلفين أو على بعد محطات قطار معدودة). في تلك الفصول الميدانية يصبح كلاً من "الطلاب" والمجموعات التي يتم دراساتها معلمون ومساعدون لبعضهم البعض. وهناك كتاب الممارسة الاجتماعية لحقوق الإنسان واتحاد البرنامج العالمي للتثقيف في مجال حقوق الإنسان ومركز آركس Arcus لقيادة العدالة الاجتماعية جميعها توفر فرص رائعة للنظر في بعض هذه التقنيات.
ولذلك فالانتقال إلى خارج حجرة الفصل الدراسي أمر أساسي، لأن العملية التعليمية لا تتم في وضع الراحة التامة. فقط عندما يدفع المعلم طلابه، ويدفع الطلاب معلمهم لينظر كلاً منهم إلى حدود قدراته وإمكانياته ويتعرف عليها، فيبدأ بالتساؤل عما ظنه غير مطروح للشك. وقد يبدو الأمر مفاجئاً، ولكنني على مدار سنوات التدريس التي عملت بها، نادراً ما وجدت أن المحتوى الأكاديمي هو ما يدفع الطلاب خارج دائرة الراحة، ولكن عدم وجود وجهة واضحة أو توجيهات هو ما دفعهم للخروج من تلك الدائرة. فعادة ما ينظر الطلاب إلى معلمهم وينتظرون منه أن يخبرهم ما المطلوب منهم، فلم يعتادوا من قبل أن المطلوب والمتوقع منهم أن يمارسوا حريتهم واستقلالهم الشخصي.
يمكن أيضاً استخدام وسائط مختلفة للتعلم (الروايات والأفلام والمسرح والموسيقى والشعر والنصوص غير الروائية) فجميعها من الطرق الفعالة لإثارة مشاعر التعاطف والتفكير النقدي البناء. فمن خلال تطبيق ما أشارت إليه أليسون بريسك باسم "السرديات السياسية" يمكن للمعلم أن ينجح أكثر في "إشراك" طلابه، ويطبق من خلال ذلك النظريات. فمن خلال القصص، يمكن للمرء أن يركز على الأفراد التي تقف خلف ستار السياسات.
ما يحتاجه التثقيف في مجال حقوق الإنسان هو النظر إلى العملية التعليمية والاقتراب من مفهوم المناصرة من منظور الرؤية الطموحة والنموذج البناء بدلاً من النظر إليهما من منظور العجز والفشل، بالإضافة إلى العمل على تسليح طلابنا بالمهارات واللغات التي يحتاجون إليها في عملهم في مجال حقوق الإنسان. فعلينا مشاركتهم التعاطف وتعزيز قدراتهم وإمكانياتهم. ولكي ننجح في هذا، نحن بحاجة إلى ثقة كبيرة متبادلة بين الطلاب والمعلم. ويمكن للمعلم أن يكتسب هذه الثقة من خلال المحافظة على اتساق الأسلوب وأن يكون متاحاً لطلابه ويقدموا لهم محتوى يثير فضولهم وانتباههم، بالإضافة إلى رفع سقف التوقعات للطلاب والمعلم على السواء. بمعنى، أنني كمعلمة، لابد وأن أكون على أتم الاستعداد لتوجيه السفينة ولكن في نفس الوقت سأرفع يدي عن دفة القيادة شيئاً فشيء.
فدراسة حقوق الإنسان بلا شك حقلاً سياسياً نقدياً – تقوم فيه النظريات بإرشاد وتوجيه الأفعال ومن خلال هذه العملية، يتعلم ويتعرف كلاً من الطلاب والمعلم على قدراتهم وإمكانياتهم وحدودها في صنع التغيير وإحداث فارقاً في العالم. ولكن في نهاية المطاف، سيظل الشغف والمهارات والمخاطرة والتواضع والثقة أهم عوامل المعادلة الكيمائية للتثقيف في مجال حقوق الإنسان وتمكيننا من النجاح في أعمال حقوق الإنسان بداخل حجرة الفصل الدراسي وخارجه.