أسفرت سبعة أعوام من النزاع السوري عن أزمة لحقوق الإنسان وأزمة إنسانية هائلة النطاق، حيث يُعاني السكان المدنيون تهديدات يومية تمسّ حياتهم، وكرامتهم، وسلامتهم. كما أدّى النزاع إلى عملية نزوح داخلي هائلة، وأزمة لجوء غير مسبوقة؛ مع فرار الملايين من سوريا. تستضيف تركيا – وبفارق كبير عن أيّة دولة أخرى – أكبر عدد من اللاجئين الوافدين من سوريا، ويُقدّر عددهم هناك بأكثر من 3.5 مليون نسمة.
ويُعدّ العنف الجنسي المتعلق بالنزاع من بين انتهاكات حقوق الإنسان العديدة التي اتّسم بها النزاع المسلح في سوريا. وفي حين ما زال العنف الجنسي مشكلة جسيمة تواجه النساء والفتيات، فقد قامت أيضًا الأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية دولية وقطرية بتوثيق وقائع عنف جنسي ارتُكبَت بحقّ الرجال والفتية. وتكشف البحوث السابقة أيضاً عن الخطر القائم بحق الرجال والفتية، وعلى الأخص بحق مجموعات بعينها، مثل أصحاب الميول الجنسية المُغايرة، مع فرارهم من سوريا إلى دول اللجوء.
ولقد أنّجز "مشروع جميع الناجين" بحوثاً حول العنف الجنسي ضدّ الرجال والفتية في سوريا، بدءًا من سبتمبر/أيلول 2017 وحتى أغسطس/آب 2018، وبشأن العوامل المؤدّية إلى عُرضة الرجال والفتية الفارّين من سوريا إلى تركيا لهذا الانتهاك.
Video produced by the All Survivors Project.
وتبيّن أن أكثر من 60% ممّن قابلناهم بشأن هذه القضيّة يعرفون بحالات تعرّض فيها الرجال والفتية للعنف الجنسي في سوريا. وفي حين كانت مراكز الاحتجاز الحكومية السورية هي المكان الذي يعاني فيه الرجال والفتية من أكبر احتمالات التعرّض للعنف الجنسي، فقدّ توصلنا أيضاً إلى ارتكاب جماعات مسلحة لأعمال عنف جنسي بحقّ الرجال والفتية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وجبهة النُصّرة، وقوّات سوريا الديمقراطية. وتبيّن أن لبعضّ من استقينا منهم معلومات خبرة مُباشرة في تقديم الدعم الطبي وأشكال الدعم الإنساني الأخرى للذكور الناجين من العنف الجنسي، أو شاركوا في توثيق وقائع في هذا السياق على صلة بأنشطة حقوق الإنسان. كما سمع كثيرون بوقائع عنف جنسي ضد الذكور، من الناجين أنفسهم، وكانوا يعرفوهم بصفة شخصية، أو من خلال أصدقاء مشتركين أو أٌقارب أو زملاء. ولقد شهد مُحادثينا في بعض الحالات، وبصفة مباشرة، على أعمال عنف جنسي بحقّ رجال أو فتية. ورغم النطاق الكبير المُرجَّح للعنف الجنسي ضد الرجال والفتية في سوريا، ورغم استمرار تعرضهم لخطره أثناء فرارهم عبر الحدود وفي دول اللجوء مثل تركيا، تُظهر بحوثنا أن الاهتمام بهذه القضية ما زال قاصرًا للغاية.
ولقدّ توصلت بحوثنا إلى القصور في توفّر جهود منظمة وممنهجة لتقديم الرعاية والخدمات للناجين الذكور من العنف الجنسي في سوريا؛ إذّ أن هناك إقصاء على المستوى الهيكلي للناجين الذكور، من الحصول على المساعدة والرعاية السريعة والجيّدة والآمنة والسرّية المُنصبّة على خدمة الناجين. وهناك مزيج من العوامل يُسهّل العنف الجنسي ضد الرجال والفتية ويُسهِم في إفلات الجناة الفعلي من العقاب. منّ بين هذه العوامل عدم توفّر الحماية من الاغتصاب للرجال والفتية في القانون السوري، وعدم إمكانية وصول المراقبين المستقلين والفاعلين بالمجال الإنساني إلى مراكز الاحتجاز، وعدم التقدم على مسار الاتفاق على خطط عمل لإنهاء الانتهاكات الجسيمة بحقّ الأطفال – والوقاية منها – فيما يخصّ قوات الأمن الحكومية والأطراف المسلحة غير التابعة لدول المُدرجة على "قوائم" الأمم المتحدة ذات الصلة، فضلاً عن غياب الملاحقات الجنائية بحق الجُناة عن طريق القضاء.
فضلاً عن المذكور، هناك "عوائق داخلية" في صفوف المنظمات الإنسانية، ومن أبرزها غياب الإقرار بأن العنف الجنسي قد يطال الرجال والفتية إضافة إلى النساء والفتيات. ونتيجة لهذا فكثيراً ما تغيب فئة الرجال والفتية عن المناقشات المُتصلة بالسياسات والتخطيط ذات الصلة. ويؤدي هذا إلى عدم السعي إلى تقديم خدمات مخصصة للناجين الذكور أو السعي إلى الوصول إلى مثل هؤلاء الناجين. وتبيّن أيضاً أن الصور النمطية السائدة حول "الرجولة" تُعزّز التصورات في أوساط العاملين بالمجال الإنساني بأن بإمكان الرجال رعاية أنفسهم وأنهم ليسوا بحاجة إلى المساعدة، و/أو النظر إلى الرجال بالأساس كجُناة لا كضحايا. ومن الأسباب الأخرى لتجاهل الانتهاكات الجنسية بحقّ الرجال والصبية هو ما يتّصل بعدم كفاية بناء القدرات والتدريب للعاملين على هذا المضمار، والعقبات ثقافية الطابع التي تتخلل أغلب أطراف المجال الإنساني.
وسواء وقعت أعمال العنف الجنسي في سوريا أو تركيا، فقد أخبرنا من أجرينا معهم مقابلات بالعواقب المُدمّرة على الناجين الذكور، وعلى عائلاتهم ومجتمعاتهم. إذّ وصفوا الإصابات البدنية، والآثار النفسية قصيرة وطويلة الأجل على الناجين، ومنها الإحساس بالعار، وفقدان الثقة بالنفس، واضطرابات النوم، والإحساس بقلّة الحيلة، والشعور بالارتباك، والتفكير في الانتحار. وكانت مشاعر فقدان الذكورة ولوم الذات من المشاكل الشائعة أيضاً، وتُعزى إلى الثقافة والتوقعات السائدة من أدوار الرجال والفتية، وتشمل دورهم المتعلق بحماية أنفسهم وعائلاتهم. وتبيّن أيضاً أنّ مِن بين العوامل التي أدّت إلى النظر إلى الناجين بصفتهم قد أصبحوا في عِداد المثليين جنسياً وفي إحساسهم بالخوف والقلق حول هويتهم الجنسانية أو توجّههم الجنسي، وجود قوانين تمييزية، والتحيّزات ضد مجتمع الميم، والمعايير الجندرية المُتصلّبة، والفهم المغلوط المحيط بالعنف الجنسي الذي يُمارَس ضدّ الذكور. وقال لنا مثلاً أحد مُحادثينا الأساسيين في سياق البحوث الخاصة بهذه القضية: "المسألة مُدمّرة تماماً للرجال. إذا عُرف أن هذا الرجل [قد تعرّض للعنف الجنسي] فهذا يعني أن عليه ترك مجتمعه [والذهاب] إلى حيث لا يعرف أحد بتعرّضه للانتهاك الجنسي".
ثمّة حاجة إلى تمويلات مُخصّصة لمُباشَرة أعمال الاستجابة الخاصة بالرجال والفتية، دون تقليل المُنفَق على البرامج المُخصّصة للنساء والفتيات، وهي البرامج التي توجد حاجة ماسّة إليها. كما توجد حاجة إلى تقديم الدعم عبر برامج إعادة التأهيل طويلة الأجل، عميقة الأثر، المُخصّصة لصالح الناجين من التعذيب الجنسي وغيره من صنوف العنف الجنسي المؤدية إلى الصدمة والكرب. ويعدّ هذا النوع من البرامج أقل جاذبية في نظر المانحين لأن أنشطته التي تُركز على التعامُل الفردي – وبشكل مُكثّف – تعني أن عدد المستفيدين منه أقل من المستفدين من برامج الدعم النفسي الأخرى المُخصّصة لأعداد أكبر.
وثمّة حاجة مُلحّة إلى إعداد وتنفيذ الفاعلين بمجال حقوق الإنسان والاستجابة الإنسانية وغيرهم من الفاعلين، لاستراتيجيات مُنسقة، للوقاية من العنف الجنسي بحقّ الرجال والفتية في سوريا. ويجب أن تشمل الأولويات تعديل القوانين السورية بما يسمح بمد مظلّة الحماية إلى الرجال والفتية، وإنهاء تجريم المثلية، مع تنظيم أعمال الرصد المستقلة لجميع مراكز الاحتجاز التابعة للحكومة وللأطراف المسلحة غير التابعة للدولة في سوريا. كما أنّ ثمة حاجة إلى جهود التواصل رفيع المستوى مع القوات المسلحة التابعة للدولة ومع الجماعات المسلحة المُدرجة في تقرير الأمين العام السنوي المتعلق بالأطفال والنزاعات المسلحة؛ من أجل الاتّفاق على خطط عمل تُنهي هذه الانتهاكات وتحول دون وقوعها.
لقدّ أكّدت بحوثنا الخاصة بسوريا ما وثّقناه في أماكن أخرى؛ من أنّ للعنف الجنسي ضد الرجال والفتية تأثير عميق طويل المفعول على الأفراد وعلى عائلاتهم ومجتمعاتهم. من ثم، يجب أن يلتفت العاملون بالمجال الإنساني إلى هذا الانتهاك الخفي الذي يتربّص بالسكان المدنيين المُحاصرين.