في ظل وجود أكثر من 400 ألف قتيل وملايين النازحين وعدد بلا حصر مما وقعوا ضحايا بصور أخرى لانتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة، يواجه السوريون سؤالاً مقلقاً: كيف يمكن أن تبدو العدالة لبلدهم بعد عقد من النزاع القاسي؟
لقد وجدت اختلافاً هائلاً ليس فقط بين المناصرين للنظام ومن يعارضوه من السوريين، إنما أيضاً فيما بين كل من هذين المعسكرين، حول كيف يمكن إحقاق العدالة بأفضل شكل. هذه النتيجة تعد بمثابة تحذير مبكر لصناع السياسات والممارسين بمجال العدالة الانتقالية، الذين عليهم ألا يفترضوا أن المشاورات "المحلية؟ سوف تؤدي إلى إجماع واضح أو وصفات واضحة ومستقرة بالسياسات المطلوبة. من أجل تعزيز السلام الدائم، فإن ردود الفعل إزاء العنف في سوريا يجب أن تشمل المطالب غير المتسقة – بل وحتى غير القابلة للتوفيق – من أجل العدالة.
لقد تزايد سعي الباحثين والممارسين لوضع الضحايا والناجين في القلب من عملية تصميم وتنفيذ عمليات العدالة الانتقالية المحلية، للتعامل مع إرث انتهاكات حقوق الإنسان الجماعية الثقيل. في حين لا يوجد تعريف واحد لما هو "المحلي"، فإن مثل هذه العمليات تُعد في العادة من قبل ولصالح الأكثر تضرراً من العنف، لكي تعكس الاحتياجات النابعة من سياقهم، ومن مصالحهم وأولوياتهم. جهود العدالة التي تُصمم من أسفل لأعلى تقر بمركزية دور جميع أفراد المجتمع في التحول على مسار النزاع وتطالب بأن تُشرك النخب السياسية الرأي العام في صياغة السياسات الفعالة.
لقياس ما يريده المواطن العادي من عمليات العدالة الانتقالية، عادة ما يعرض الباحثون على المبحوثين من بين السكان المتضررين من النزاع، قائمة بآليات العدالة – مثل المحاكمات، لجان الحقيقة والمصالحة، عمليات العفو، الجبر، الحوار المجتمعي، إلخ – ويطلبون منهم توضيح تفضيلاتهم من بين الآليات المذكورة. يفترض المعنيون بحقوق الإنسان أن هذه المشاورات "المحلية" قادرة على مساعدة صناع السياسات والممارسين، الذين ينحدرون من المستوى القُطري أو الدولي – في تصميم أعمال إحقاق العدالة المصممة خصيصاً بحسب تفضيلات الناجين والضحايا.
لكن ما مدى فعالية هذه المشاورات عندما يكون ثمة خلاف عميق في أوساط السكان "المحليين"، حول طبيعة وهيئة وأهداف عملية العدالة الانتقالية؟ هذا السيناريو هو المشهود في سوريا.
بناء على مقابلات أجريتها في عام 2018 بنفسي، وبناء على قاعدة بيانات تعود لعام 2013 من المركز السوري للعدالة والمساءلة (وهو منظمة غير حكومية سورية بالولايات المتحدة تُعنى بتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا)، حللت تفضيلات العدالة لـ 44 سورياً وسورية يعيشون داخل وخارج سوريا. كان المشاركون متنوعون من حيث الفئة العمرية، والنوع، والطائفة الدينية والنطاق الجغرافي، والميول السياسية. وحتى داخل هذه العينة الصغيرة، أعرب السوريون عن رؤى شديدة الاختلاف والتنوع حول العدالة.
كان هناك اختلاف كبير حول كل سؤال تقريباً: أي الآليات هي الواجب استخدامها؟ من يتولى الإشراف على العملية؟ من سيخضع للمساءلة؟ ما نوع العقوبات الواجبة؟ لكن، بالتحليل الأعمق لإجابات المشاركين، تبين وجود ثلاث رؤى غالبة، تختلف حول النظر إلى النزاع وكيفية السعي لإحقاق العدالة. نرجو تذكر أن هذه الرؤى تبناها كل من الموالين للنظام والمعارضين له من السوريين، في سياق وصفهم لأعضاء المعسكر الآخر:
أولاً، فئة المتطرفين غير النادمين. هؤلاء الأفراد تحدثوا باستخدام خطاب ينزع السمة الإنسانية ويحط من قدر خصومهم. تبين نزوعهم إلى رؤية النزاع بصفته نزاع وجودي: إما ننتصر أو نموت. إضافة إلى رف السلام دون انتصار من طرف على طرف، يفضل المتطرفون غير النادمون بقدر كبير آليات العدالة العقابية، أو الثأرية. فالكثير منهم يريدون محاكمة أعدائهم، ويوصون بعقوبة الإعدام على المُدانين منهم. كما ينكرون بقوة ارتكاب طرفهم لأي خطأ، وهو الأمر الذي يرونه وطني تماماً.
ثم هناك الحزبيون الملتزمون. تبين في صفوف هذه الفئة من الناس وجود آراء أقل حدّية للنزاع مقارنة بالمجموعة الأولى، مع تبنيهم لمزاعم متشددة بالولاء لجانب دون الآخر. الحزبيون الملتزمون مخلصون بقوة لتأمين مصالح جانبهم من النزاع ويرونه أفضل من "الآخر". لكنهم أكثر قابلية للتفاوض ولتوفيق المطالب مع الخصوم. ينزعون إلى تفضيل المحاكمات على الجرائم التي ارتكبتها جميع الأطراف ويروجون لعقوبات أخف من الإعدام. قم الكثيرون من هذه الفئة رؤى واضحة وتفصيلية – وتخدم مصالحهم السياسية على هذا – لعملية العدالة.
أخيراً، هناك فئة المواطنون الذين تعبوا من الحرب وهم يرون أنفسهم سوريون أكثر من كونهم ينتمون إلى أي من طرفي النزاع. هؤلاء الأفراد يزعمون أنهم علقوا بين الأطراف المقاتلة، مع تحملهم للمعاناة دون ذنب منهم. المواطنون المتعبون من الحرب يفضلون محاسبة جميع الأطراف، وإن كانوا الفئة الأكثر قبولاً لآليات العدالة الاستردادية، مثل لجان الحقيقة والمصالحة، بل وحتى عمليات العفو. همهم الأساسي هو إنهاء العنف، ويرون أن جهود العدالة يجب أن تكون مصممة لتحقيق هذه الغاية.
لنتخيل للحظة أن هذه الدراسة الاستكشافية تكررت بصيغة استطلاع رأي موسع شامل للسوريين جميعاً حول تفضيلات العدالة في سوريا اليوم. إذا تبين أن 50% من المبحوثين من فئة المتطرفين غير النادمين، و30% من فئة الحزبيين الملتزمين، و20% من فئة المواطنين المتعبين من الحرب، فما السياسة التي نوصي بها؟ لا سبيل هنالك لإرضاء الكافة، وهناك دراسات حالة كثيرة حول دول أخرى غير سوريا، توصلت إلى وجود الخلاف دائماً حول تفضيلات آليات العدالة. بالتالي، فإن المعنيين بحقوق الإنسان عليهم ألا يفترضوا أن المشاورات سوف تشير إلى مسار مفضل واضح للسياسات، حتى ولو على المستوى "المحلي". في النهاية، على صناع السياسات والممارسين أن يعلوا أولوية تفضيلات بعينها يتم اختيارها وتنفيذها، مع اختيار توقيت وكيفية تنفيذها.
لكن هذا لا يعني أن توثيق تفضيلات العدالة الخاصة بالأفراد مسألة غير ذات جدوى تماماً. إنما يمكن اعتبار مثل هذه التقييمات بمثابة ترمومتر يقيس ميول الرأي العام. إن وجود قاعدة مناسبة من التفضيلات "المحلية" يمكن أن يساعد في توقع درجة دعم أو مقاومة مختلف آليات العدالة على الأرض، وهي العملية – التي وإن كانت لا ترقى لعملية التصميم التشاركي المثالية للعدالة – التي تبقى أفضل من تجاهل الأصوات "المحلية" تماماً. كما أن المعنيين بحقوق الإنسان عليهم التفكير في تبني نهج تعددي في العدالة الانتقالية، لمحاولة تلبية مختلف الطلبات المتنافسة من الناس. إن النزاع السوري لم يترك أحداً لم يمسه ويؤثر عليه، ما يعني أن على صناع السياسات السعي لفهم تفضيلات جميع السوريين إذا كانوا يأملون في تشجيع الأفراد على المشاركة بشكل حقيقي في جهود العدالة.
ومن جانبهم، يجب أن يستمر الباحثون في الذهاب إلى ما هو أبعد من قياس من يرغب في ماذا عندما يتعلق الأمر بتفضيلات العدالة الانتقالية، إلى مرحلة التحقيق في كيف. ما القوى الاجتماعية والسياسية والنفسية التي تشكل هذه الآراء المتباعدة؟ لقد ظهرت بعض الجهود البحثية الواعدة حول محددات تفضيلات الأفراد للعدالة الانتقالية، مثلاً في بوروندي وإسبانيا والبوسنة، لكن ثمة الكثير من الجهود المطلوبة أيضاً. إن البناء على هذه القاعدة المعرفية يمكن أن يساعد صناع السياسات والممارسين في تفسير واستخدام نتائج المشاورات "المحلية" بشكل أفضل.
عمليات العدالة "المحلية" المصممة بنهج من أسفل لأعلى قد تكون واعدة بتلبية احتياجات الضحايا والناجين، لكنها ليست بالحل البسيط. إن افتراض أن العمليات "المحلية" – لمجرد كونها محلية – يمكن أن يؤدي إلى الالتفاف حول الحلول الوسط المرتبطة بشكل أصيل بأي عملية تفاوض على العدالة الانتقالية، وما يرتبط بهذا من عدم فهم تعقد رؤى الأفراد المختلفة. على المعنيين بحقوق الإنسان أن يمضوا بحذر في هذا الملف، مع تجنب التوقعات المثالية والنموذجية بشكل مفرط حول ما يمكن لـ "المحلي" أن ينجزه. وفي الحالة السورية تحديداً، يجب المضي في العملية بتواضع وتقبل أن العملية ستكون مضنية.