لا تتوفر شبكة للهواتف الخلوية لدى نقطة تفتيش قلنديا، أكبر حاجز أمني عسكري إسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة. ولا يُسمَّح لشركات الشبكات الخلوية الفلسطينية بتثبيت معدات بالمنطقة المحيطة بالنقطة الأمنية، وليس لدى الشركات الإسرائيلية دافع لهذا. ومن ثَمَّ، فإن الفلسطينيين الذين يتنقلون عبر نقطة التفتيش المذكورة – وهو من مواقع انتهاكات حقوق الإنسان المتكررة – يجدون أنفسهم وسط ما أسمته الباحثة الإعلامية هلجا طويل الصوري "منطقة محظورة هاتفيًا".
ولفهم هذه المنطقة المحظورة هاتفيًا، فمن الضروري فهم الآليات التي تعمل في ظلّها شركات الشبكات الخلوية، والتي تشمل وجود بنية تحتية قد تكون أي شيء بخلاف كونها مُتَنقلة مناسبة للهواتف الخلوية. تعمل شبكات الهواتف الخليوية عن طريق مكونين اثنين: الأجهزة الخلوية والهوائيات الثابتة. ولكي تعمل الشبكة، يتم تقسيم المنطقة الواحدة إلى آلاف "الخلايا" الجغرافية، وكل خلية منها مُجهزة بهوائي مركزيّ، وهو جهاز مادي له حيز يغطي منطقة محدودة. وتتداخل الخلايا لتهييء ما يُشار إليه عمومًا بمسمى "التغطية الخلوية"، وتقوم الهواتف الخليوية بإرسال واستقبال الإشارات اللاسلكية المرسلة إلى جهاز الهوائي الثابت والواردة منه. وفي المناطق التي ليس بها تداخل بين الخلايا المذكورة – وعادة ما يكون هذا بسبب عوائق مادية مثل التضاريس الجبلية – تتعرض التغطية للاضطراب ويكون الاستقبال محدودًا أو غائبًا تمامًا. لكن وجود مناطق خالية تمامًا من الإشارة مثل قلنديا هو نتاج سياسات، لا تضاريس جغرافية، وهو الأمر الذي يثير تساؤلات جدّية حول التقاطع بين تكنولوجيا الاتصالات الخلوية وحقوق الإنسان. فهذه المناطق المعطل بها الإشارة تسلط الضوء على قضايا مثل البنية التحتية المادية، واللامساواة الهيكلية وأوجه الاستضعاف والهشاشة التي تخلقها البنية التحتية، لا سيما في ظل الاحتلال العسكري.
إنّ المناقشات ذات الطابع الانتقادي المحيطة بمخاطر حقوق الإنسان ذات الصلة بتكنولوجيا الاتصالات، تدور حول قضايا مثل الآثار السلبية على البشر جراء سلسلة إمداد وإنتاج الهواتف الخلوية، ومخاطر تطبيقات مواعدة مجتمع الميم التي لا تراعي الأمان، وقضايا الحق في الخصوصية، ومراقبة الدول للاتصالات الخلوية. لكن ثمة حاجة إلى مزيد من البحث حول التداعيات السياسية والاقتصادية والحقوقية للسيطرة على البنية التحتية للشبكات الخلوية في حالات الاحتلال، بما يشمل القدرة على استخدام البنية التحتية كسلاح من قِبَل القوى المُحتلة، واستغلالها في سياق اقتصادٍ أسير ومُخضَع.
وفي سياق الأراضي الفلسطينية المحتلة، ما زالت البنية التحتية للاتصالات محتلة، رغم كونها مستقلة رسميًا وتسيطر عليها السلطة الفلسطينية والشركات الفلسطينية منذ عام 1995. ويتحقق إخضاعها للاحتلال من خلال البروتوكولات الاقتصادية الملحقة باتفاقات أوسلو. فالقيود الإسرائيلية المستمرة على سعة روابط الموجات متناهية الصغر (ميكرويف)، تعني أن شركة بالتل (شركة الاتصالات الفلسطينية) مُضطرة لأن تُمرر جميع الاتصالات بين الضفة الغربية وغزة – والعديد من الاتصالات داخل غزة والضفة الغربية – عبر شركات اتصالات إسرائيلية. تجني هذه الشركات عمولة على جميع الأرباح الناتجة عن الاتصالات بين الخطوط الأرضية والهواتف الخلوية الفلسطينية، ومن المكالمات بين الهواتف الخلوية التي تستخدم خطوطًا فلسطينية وتلك التي تُشغّل خطوطًا إسرائيلية. وتقوم إسرائيل بمنع بالتل من إدارة قناتها الدولية الخاصة بها، إذ تطالب جميع شركات الاتصالات الخلوية الفلسطينية بالمرور عبر شركة مسجلة في إسرائيل حتى تُجري اتصالات دولية. تؤدي هذه الممارسات إلى أرباح سهلة لشركات الاتصالات الإسرائيلية، التي تُحَصّل رسومًا على الاتصالات المحلية والدولية.
إنّ اعتماد البنية التحتية الفلسطينية على البنية التحتية الإسرائيلية في جميع اتصالات الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت) والخطوط الأرضية والخلوية، يمنح سلطة الاحتلال أيضًا قدرات مراقبة هائلة، وهي القدرات التي يمكن استخدامها ليس فقط في تعميم رسائل الدعاية و الترويج (البروباغاندا)، وإنما أيضًا في التجسس على السكان المحتلين. فعن طريق السيطرة على الترددات اللاسلكية، يمكن للجيش الإسرائيلي قرصنة وتعطيل وقطع موجات الأثير اللاسلكيّ. وأثناء العمليات العسكرية الإسرائيلية الموسعة ضد غزة في 2008 و2009 و2014، استعانت إسرائيل بهذه القدرات في الاتصال بسكان غزة وإرسال رسائل نصّية إليهم، قبل قصف بيوتهم وأحيائهم. ولقد تزايد أيضًا خضوع الفضاء الإلكترونيّ الفلسطينيّ –وتحديدًا مواقع التواصل الاجتماعي – للمراقبة، حيث تذرعت القوات الإسرائيلية بتدوينات على فيسبوك وتويتر لاعتقال أفراد على جانبيّ الخط الأخضر.
يمكن لشركات الاتصالات الخلوية الإسرائيلية استغلال تبعية وضعف مستوى تطور قطاع الاتصالات الفلسطيني، مع عدم خضوعها على الإطلاق لأي قدر من المحاسبة. فمع تواجد هذه الشركات على الأرض في المستوطنات غير القانونية – ومع تنصيبها لمئات الهوائيات في الضفة الغربية – فإن بإمكانها ضمّ كم كبير من المكالمات إلى شبكاتها. وبمساعدة من التفضيلات الهندسية للاحتلال التي تُفضل تنصيب الهوائيات أعلى التلال وضمن المُنشآت العسكرية، فإن إشارة الشبكات الخلوية الإسرائيلية تخترق المراكز السكانية الفلسطينية بقوة. والحقّ أن الإشارة الخلوية الإسرائيلية تخترق بعمق لدرجةٍ تدفع المرء للتساؤل ما إذا كان هذا التطوير المفرط للشبكة متعّمد، كآلية خبيثة لاختراق السوق الفلسطينية عبر تركيبات وإنشاءات للبنية التحتية للاتصالات الخلوية المدعومة بقوة من الدولة الإسرائيلية، والمتواجدة بكثرة في مستوطنات معزولة مأهولة بعدد ضئيل من السكان.
إذن ورُغم وجود حظر رسميّ على عمل شركات الاتصالات في السوق الفلسطينية، فإن أنشطة شركات الخدمة الخلوية الإسرائيلية غير المصرح بها تمثل ما يُقدر بـ 20 إلى 40 بالمئة من حجم سوق الاتصالات الفلسطينية. وعلى ضوء القيود المفروضة على الشركات الفلسطينية – بما يشمل عدم القدرة على إتاحة خدمات اتصالات الجيل الرابع G4 (وعدم إمكانية إتاحة الجيل الثالث حتى وقت قريب) من قدرات وإمكانات التغطية الخلوية – تبدو هذه الأرقام غير مدهشة بالمرة. يُقدر البنك الدولي أنه في الفترة من 2013 إلى 2015 كان فاقد أرباح شركات الشبكات الخلوية الفلسطينية يُعزى بصورة مباشرة إلى غياب خدمات الجيل الثالث، وقُدر الفاقد بما يتراوح بين 339 مليون و742 مليون دولار أمريكيّ. فضلًا عن المذكور، وبما أن أنشطة الشركات الإسرائيلية غير مصرح بها، فهي لا تسدد رسوم تراخيص أو ضرائب للسلطة الفلسطينية على أرباحها متذرعة بالازدواج الضريبي. لذلك لا يحصل الاقتصاد الفلسطيني ولو على النذر اليسير من الأرباح الطائلة التي يتم تحصيلها من اتصالات المستخدمين الفلسطينيين.
وبما أن قطاع الاتصالات الإسرائيلي تديره شركات القطاع الخاص بالكامل، فإن الشركات الإسرائيلية والدولية الهادفة للربح مثل شركة Altice (ومقرها هولندا) وشركة Bezeq الإسرائيلية، هي التي تستغل مجال الاتصالات الفلسطيني وتتربح منه. وخلال السنوات الأخيرة، اعتمدت عدة شركات اتصالات كبرى المبادئ التوجيهية لحرية التعبير والخصوصية، التابعة لإطار عمل حقوق الإنسان والأعمال التجارية الصادر عن الأمم المتحدة "حماية واحترام وإنصاف". وفي عام 2017 أصبحت العديد من شركات الاتصالات عضوة في المبادرة العالمية للشبكات (GNI). وفي حين تُعد هذه خطة تستحق الترحيب والإشادة، فلابد من التوسع كثيرًا في هذه الجهود إذا كان المطلوب هو التصدي لاعتبارات تخص حقوق الإنسان والتي– مثل تلك المذكورة بالتفصيل أعلاه – لا تعتبر ضمن نطاق الحق في الخصوصية وحرية التعبير. فطالما أن شركات الاتصالات مصمِّمَة على تجاهل واجبها باحترام حقوق الإنسان والقانون الدوليّ، مع استمرارها في العمل في إطار الاحتلال العدوانيّ والمُطول، سوف تبقى البنية التحتية للاتصالات أداة للسيطرة الاجتماعية والاستغلال الاقتصادي والقمع.
* يستند هذا المقال إلى تقرير صدر مؤخرًا عن مركز بحوث "من المستفيد"، بشأن الاتصالات في ظل الاحتلال الإسرائيليّ. يمكن الاطلاع على التقرير الكامل هنا.
This article is part of a series on technology and human rights co-sponsored with Business & Human Rights Resource Centre and University of Washington Rule of Law Initiative