في الحادي والعشرين من شهر أغسطس 2012، وبينما كنت أتمشى في بلدتي أمبو، في إثيوبيا، إذ برجل لا أعرفه، يناديني ويدعوني للاقتراب منه. بمجرد ان اقتربت منه، قام بجذبي بداخل مجمع ضخم تابع للحزب الحاكم في إثيوبيا "الجبهة الديمقراطية الثورية للشعب الإثيوبي EPRDF". وجدت نفسي في غرفة حبس شديدة الضيق أمام شخصين قاما على الفور بتوجيه الشتائم والسباب لي. فقدت القدرة على استيعاب ما يدور حولي تماماً، حتى قام أحدهم بسؤالي إن كنت أدري أين أنا. فأجبت: "أنا في مكتب تابع للحزب الحاكم." فقرع بقبضته بقوة على سطح المكتب قائلاً، " سيد زيلاليم، ما قلته غير صحيح. هذا المكتب تابع لجهاز المخابرات والأمن الوطني."
وهذا كان آخر ما دار من حديث بيني وبين كلا الشخصين. وعلى مدار الثلاث ساعات التالية، تم الاعتداء على وطرحي أرضاً والدفع برأسي إلى الحائط والجلد بسلك كهربائي والضرب بمسدس ناري وتهديدي به.
ثم قاموا بسؤالي عن سبب انتقادي للحكومة الإثيوبية، ولما قمت بالاستهزاء والسخرية من وفاة رئيس الوزراء الإثيوبي السابق – بل ما الذي أضحكني في يوم إعلان وفاته - ومن قام بتمويل "أنشطتي التخريبية" ومن همأعواني. وبعد ثلاث ساعات من الضرب المبرح والتعذيب والاستجواب، قام أحدهما بتقديم حزمة من الأوراق ثم أخبرني أن بإمكانه التحايل والالتفاف على أعمالي بالكامل ومن بينها مدونتي الشخصية وتلفيق رسالة إلكترونية إخبارية تنتمي لجماعة معارضة محظورة في إثيوبيا. عندما ألقوا بهذه الأوراق في وجهي، وجدت عنوان مدونتي الإلكترونية الشخصية مكتوباً على الصفحة الأولى. صعقني هذا المستوى من التزييف الفاضح والصريح، وأخبرتهم بذلك. فاستأنفا ضربي وتعذيبي بنشاط متجدد. وفي النهاية، طلبوا مني التعاون معهم والتوقف عن جميع أنشطتي الكتابية. ثم أمراني بالمغادرة.
عندما حاولت استجماع قوتي للنهوض من الأرض، خارت قواي ولم أستطع الوقوف معتدلاً للحظة واحدة. عدت بيتي مترنحاً وبقيت هناك لمدة خمسة أيام، غير قادر على الخروج نتيجة الإصابات التي تعرضت لها في ركبتي جراء توجيه الضربات لها بمؤخرة المسدس.
Flickr/ Andrew Heavens (Some rights reserved)
In Ethiopia, the absence of a support structure—at the institutional and individual levels—makes overcoming a traumatic experience challenging for many human rights activists.
وعلى مدار الأشهر القليلة التي تلت هذه الحادثة، امتنعت عن مشاركة تجربتي هذه مع أحد خارج دائرة المقربين لي. ثم قمت بتعطيل حساباتي الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي ومحوت بالكامل شخصيتي الإلكترونية. أصبح الأرق جزءً من حياتي. وأكثر ما أصابني بالفزع والقلق كان آثار الكدمات السوداء على ذراعي وركبتي – فقد كانت بمثابة وشم على جسدي يذكرني يومياً بما جرى لي هذا اليوم. ولكن الشكر لله، فبعد عدة أشهر، استعادت ركبتي عافيتها وزالت آثار الكدمات من جسدي. ولكن ظلت ذكريات هذا اليوم تطاردني.
بالفعل، تجاوز آثار الصدمة النفسية والعصبية كان أشد صعوبة من التطهير الإلكتروني الذي قمت به أو التعافي من الجروح والإصابات البدنية. فقد ظلت هذه الذكريات تطاردني أينما ذهبت. حاولت كثيراً تجنب رؤية المكان الذي تعرضت فيه للتعذيب والضرب وتركت بلدتي لمدة تزيد عن الشهر، فقد كنت مرعوباً من رؤية من عذبوني مرة أخرى. وحاولت صرف ذهني عن التفكير في هذا الأمر بالبقاء منشغلاً، ولكن كل هذه المحاولات لم تصرف عني الألم ولم تساعدني البتة في تجاوزه.
وكسائر الأفراد الذين تعرضوا لاعتداءات عنيفة ومباغتة أو شهدوا مثل هذه الوقائع، لم أكن مستعداً بشكل كاف وملائم لهذا الأمر. على الرغم من قراءاتي للعديد من قصص التعذيب التي قام بها رجال الأمن الإثيوبي قبل وقت طويل من تعرضي للتعذيب شخصياً، لم أتوقع أبدأً ولم يخطر في بالي أن أتعرض لمثل هذه الفظائع والهولات بشكل شخصي.
وبعد غياب إلكتروني طويل، بدأت العودة خطوة بخطوة. فقمت بإعادة تواجدي الإلكتروني مرة أخرى ولكن بكل حذر، فلم أقبل دعوات صداقة من أشخاص لا أعرفهم وقمت بتنظيم محتوى منشوراتي السياسية حتى لا تظهر إلا من أعرفهم من أصحاب الأفكار المتشابهة لأكون بأمان. وحاولت أن أبقى بعيداً عن السياسة تماماً في حياتي ونشاطاتي العامة. كل هذه كانت مجرد احتياطات وإجراءات وقائية لمنع تعرضي للتعذيب مرة أخرى، ولكن لم تعينني أياً منها على تجاوز الصدمة التي مررت بها.
وبعد فترة من التأمل الذاتي والتفكير مع النفس، وجدت أن أعراض ما بعد الصدمة هذه أهلكتني واستنزفت طاقتي لأنني لم أستعد لها. لم أكن مستعداً أو متوقعاً لمواجهة شيئاً بمثل هذا العنف والقسوة، حتى وإن كان عيشي في دولة يحكمها حزب واحد ديكتاتوري مثل إثيوبيا يتطلب مثل هذا الاحتراس واليقظة.
وبمرور بضعة أشهر من التأمل والعيش مع حالة ما بعد الصدمة، وجدت أن التوقع والاستعداد والتواصل هم الأدوات الرئيسية لمواجهة مثل تلك المواقف. فتوقع الأسوء يمكنه تخفيف وطأة المباغتة والمفاجأة بمثل هذا الحدث والاستعداد يقلل من آثار ما بعد الصدمة والتواصل مع الآخرين سيخفف من آلامه. ولكن لابد من التوزان، فالخوف قد يصيب عملنا بالشلل ويؤدي إلى نوبات التوتر المزمن التي بدورها لها آثار خطيرة على الصحة.
في أثيوبيا، غياب الدعم التنظيمي – على كلا المستويين المؤسسي والفردي – يجعل من تجاوز هذه الصدمة تحدياً كبيراً لمعظم مدافعي حقوق الإنسان. وحقيقة أن التعذيب وسوء المعاملة أمران متفشيان يصيبنا جميعاً بالضعف والوهن، أما غياب الاستعداد وشبكات الدعم فيدمر من يقعون ضحايا له. العديد من نشطاء حقوق الإنسان تركوا عملهم بعد التعرض لحادثة تعذيب أصابتهم بالصدمة. التوقعات الواقعية والاستعداد المناسب بالإضافة إلى شبكات الدعم وقنوات التواصل هي الأدوات الضرورية لنشطاء ومدافعي حقوق الإنسان.
في منتصف عام 2014، بعد عام ونصف من حادثة تعذيبي الأولى، قام أفراد من المخابرات والأمن الوطني الإثيوبي بالقدوم إلى مكتبي مرة أخرى. ولكن هذه المرة تم اعتقالي ونقلي من بلدتي إلى العاصمة، أديس أبابا. وفي الطريق سألوني لما رفضت التوقف عن عملي في مجال حقوق الإنسان - بعد تحذيري (تعذيبي) المرة الأولى في عام 2012. في هذه اللحظة، عادت لي كل ذكريات حادثة التعذيب كالفيضان، وهيأت نفسي واستعددت للتعرض للتعذيب مرة أخرى. وبسرعة وجدت نفسي في حجرة التعذيب. وعلى عكس ساعات التعذيب الثلاث السابقة التي عانيتها، في هذه المرة قاموا باحتجازي ثلاثة أشهر. ولكن بالرغم من هذا، تجربتي الثانية لم تقترب أبداً من سوء آثار الصدمة الأولى. هل قامت التجربة بمحو تأثيرها؟ هل كنت أكثر استعداداً؟ لست متأكداً تماماً من السبب. ولكن يبدو أن توقع الأسوء والاستعداد له والتواصل مع الآخرين ونشر قصتي ساعدني وأعانني على تحمل قسوة وفظاعة التعذيب. واستطعت أن أنتقل من مرحلة ما بعد الصدمة إلى حياتي الطبيعية بشكل أكثر سلاسة ويسر – ومن ثم عدت إلى مساعدة الآخرين.