تعيش الغالبية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حالياً في خضم نزاعات عديدة تؤدي إلى التدهور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وكانت "الإنترنت" وسوف تستمر في كونها أحد محركات وأدوات الإسهام في تبلور الوضع السياسي. فاستخدام منصات التواصل الاجتماعي واسع النطاق، لم يسهم فحسب في تغير النظم في بعض الحالات، إنما يسّر أيضًا من تعميم المعلومات المزيفة في حالات حرجة. وفي حالات أخرى، فإن مجرد تحميل مقطع فيديو على منصة تشارك فيديو قد ساعد في توثيق انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. ومن ثم، فإن التوجه الحالي الخاص باستخدام التقنيات الجديدة – وتشمل العديد من منصات التواصل الاجتماعي – قد لعب دورًا هامًا في التأثير على السياسة الإقليمية، وعلى تدفق المعلومات وكيفية التحكم فيها.
وفي الوقت نفسه، اعتمدت الحكومات والشركات والأفراد بالمنطقة التقنيات والتطبيقات الرقمية الجديدة على نطاق هائل، ضمن عملية سُميت بـ "الرقمنة". وبدلًا من العمل على الحد من السبل الممكنة لاستخدام الإنترنت والتقنيات الأخرى بشكل سلبي (مثال: تقديم معلومات خاطئة)، لجأت حكومات الشرق الأوسط إلى إغلاق المساحة المتاحة على الإنترنت عن طريق تنفيذ قوانين قاسية وقمعية لمكافحة جرائم التقنية. فقد أبدت الحكومات في مختلف أنحاء المنطقة همّة بالغة في صياغة هذه القوانين، التي لا يزيد أثرها عن سلب مستخدمي الإنترنت حقوقهم الأساسية.
ومع التوقعات بتجاوز عدد مستخدمي الإنترنت بالمنطقة 574.8 مليون نسمة في 2019، فإن التقنيات الحديثة ومنافذ التواصل الاجتماعي تتيح للناس القدرة على الحراك المستقل، وعلى صوغ مجتمعات على الإنترنت. وفي بعض الأحيان، تكون هذه المساحات هي الأداة الوحيدة المتاحة لممارسة الحقوق والحريات الأساسية، مثل التعبير عن الرأي وتشارك الأفكار رغم السياسات القمعية المفروضة على النشاط خارج الإنترنت. إلّا أنّ هذه المنصات تزايد تعرضها أيضًا لهجمات "سيبرانية" وجرائم تقنية وإرهاب إلكتروني وهجمات ببرمجيات خبيثة، مع استهدافها أيضًا بالمراقبة الرقمية وانتهاكات الحق في الخصوصية. وكان رد فعل الحكومات هو تنظيم ممارسات المستخدمين على الإنترنت عبر جملة من الأدوات القانونية المختلفة، مثل قوانين جرائم التقنية.
ولقد حلّت قوانين الجرائم الإلكترونية محل قوانين مماثلة أقدم كانت تنظم الممارسات والمعاملات بعيداً عن الإنترنت. هذه الطفرة الكبيرة تعني أن ممارسة الحقوق الأساسية من قبيل حرية التعبير في الصحافة المطبوعة والإذاعة أو حتى الاحتجاج في الشوارع، قد انتقلت إلى منصات إلكترونية، ومن ثم فإن التدابير القمعية التي استعانت بها الكثير من تلك الدول عليها بعيدًا عن الإنترنت، أصبحت نافذة الآن على الإنترنت.
على سبيل المثال، فإن "قانون مكافحة جرائم التقنية" البحريني الصادر عام 2014 يتيح للهيئات الحكومية المختلفة، ومنها وزارتي الداخلية والإعلام، القدرة على حجب ومراقبة طيف عريض من المواقع. وليس هناك حاجة إلى حكم محكمة لمراقبة وحجب المواقع التي تستضيف محتوى تعتبره الحكومة "يتحداها"، مثل أي محتوى ينتقد الحكومة البحرينية أو العائلة الحاكمة، أو الوضع القائم بشكل عام. وهناك مراقبة وحجب مماثلين في قانون جرائم الإنترنت المصري الصادر عام 2018. بموجب المادة 7 من القانون، فمن الممكن حجب أي موقع إذا اعتُبر محتواه مُجرّما بموجب القانون، شريطة أن يمثل تهديدًا للأمن القومي، أو يعرض أمن البلاد أو الاقتصاد للخطر، ما يؤدي عمليًا إلى تقنين حجب المواقع.
وتُيسّر هذه القوانين أيضًا وتشرعن المراقبة الجماعية من قبل الدولة والحكومات الأجنبية. فعلى سبيل المثال، يُمكّن القانون المصري من انتهاك حق المصريين في الخصوصية على يد حكومات أجنبية. فالمادة 4 من القانون تتصدى لتبادل البيانات والمعلومات بين مصر والدول الأجنبية عن طريق وزارتي الخارجية والتعاون الدولي، في إطار الاتفاقات الدولية والإقليمية والثنائية، أو في سياق تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل. ولا تتناول المادة أية متطلبات لتبادل هذه المعلومات، مثل وجود قوانين لحماية البيانات لدى الدول التي تطلبها، أو متطلبات تخص نطاق ومدة استبقاء البيانات أو كيفية معالجتها.
إن هذا عندما يرافقه سيطرة حكومية أكبر على المعلومات المتاحة عبر الإنترنت، يؤدي إلى "أثر تخويفي" حيث يبدأ الناس والمنظمات في تقليل استخدامهم للإنترنت. والمفاهيم والمصطلحات الفضفاضة والمبهمة التي تنص عليها هذه القوانين تسمح بانتهاك الحقوق الأساسية من قبيل حرية التعبير والحق في الخصوصية.
وقد مضت بعض قوانين جرائم التقنية أبعد، إذ لم تكتف بتجريم أنشطة الأفراد، إنما فرضت أيضًا المسؤولية القانونية على موفري خدمات الإنترنت وشركات الاتصالات والمنصات الإلكترونية، على المحتوى الذي يُحمّله المستخدمون عبرها. فالمادة 2 من القانون المصري لمكافحة جرائم الإنترنت على سبيل المثال تطالب شركات الاتصالات باستبقاء وتخزين بيانات المستخدمين لمدة 180 يومًا. يشمل هذا البيانات القادرة على تعريف المستخدم، أو "البيانات الوصفية" الخاصة بمحتوى اتصالات الأفراد، وعنوان الـ IP الخاص بالحاسب والأجهزة المستخدمة. يعني هذا أنه من الممكن مطالبة موفري خدمات الاتصالات بتسليم السلطات معلومات تفصيلية عن اتصالات المستخدمين، ومنها معلومات عن المكالمات الصوتية والرسائل النصية وزيارات المواقع واستخدام التطبيقات على الحواسب والهواتف الذكية. وتلزم المادة نفسها شركات الاتصالات بالالتزام بالقواعد ذاتها فيما يخص "أي بيانات أخرى يصدر بتحديدها قرار من مجلس إدارة الجهاز [القومي لتنظيم الاتصالات]"، ما يعني إمكانية إجبار الشركات على جمع واستبقاء بيانات لا ينص عليها القانون، بناء على قرار من جهاز تنظيم الاتصالات. وتعطي المادة نفسها أيضًا سلطة جمع البيانات الممنوحة لموفري خدمات الاتصالات إلى الجهات المعاونة المسؤولة عن تسويق خدمات هذه الشركات.
وتتيح المادة 2 لسلطات الأمن القومي أيضًا الحق في الوصول إلى هذه البيانات، مع اضطرار موفري خدمات الاتصالات إلى تقديم المساعدة التقنية اللازمة لتيسير هذه العملية. أي أن القانون يعطي أجهزة الأمن سلطات موسعة في الحصول على بيانات المستخدمين، دون حدود أو معايير واضحة.
وكما سبق التوثيق في مناطق أخرى، فإن المنصات المختلفة تبدأ في التعاون في ظل خوف من المسؤولية الجنائية، فتختار حذف المحتوى الذي تراه قد يؤدي إلى الملاحقة القضائية. هذا بدوره يصبح شكلاً من أشكال الرقابة، فيؤثر على الإبداع والابتكار وحرية التعبير عبر منصات الشبكات الاجتماعية، كما يؤثر على النمو الاقتصادي.
إن التكنولوجيا الجديدة في جميع أنحاء العالم تتيح فضاءات جديدة مثيرة للابتكار والإبداع. وهذه القوانين القمعية المؤثرة على المساحات التي تتيحها "الإنترنت" تجرّم الحريات والحقوق الأساسية، بدلًا من أن تشجعها وتقدمها للجميع. إنها تهيئ شبكة إنترنت مليئة بالبساتين المحاطة بأسوار.
من ثم، فإن على حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا زيادة استخدام الإنترنت كمساحة للتواصل والتنمية، كأداة فعالة للتعليم والصحة والتجارة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. إن تحسين الأمان الرقمي جزء لا يتجزأ من هذه الجهود، وكذلك لا ينفصل عن هذه الجهود السعي لتوسيع إتاحة تقنيات الاتصالات والمعلومات للجميع. وحماية حقوق الإنسان على الإنترنت هو