ثمّة تحدٍ مركزي يواجه حركة حقوق الإنسان، وهو كيف توفّق بين رسالتها الأساسية – أي الدفاع عن الأقليات المُعَرَّضَة للإجحاف – والواقع المتمثل في ضرورة أن يحشد المناصرون للحقوق الأغلبيات السياسية للدفاع عن القضية. تسعى المناصرة الحقوقية إلى الحصول على الشرعية عن طريق جعل حججها وادعاءاتها تنطلق من أرضية مبادئ عالمية متجاوزة للسياسات الحزبية. إلا أنه لا يمكن للمناصرين تحقيق رؤيتهم بعالم يحترم الحقوق، دون التورط في نضالات سياسية.
قبل ربع قرن، في لحظة التفاؤل المحيطة بمنظور "نهاية التاريخ" الذي ظهر حينئذ، كان من الأسهل تجاهل هذه التوترات. لكن الآن مع رِبح الحُكّام غير المناصرين للحرية – بكل فخر – للانتخابات الواحد تلو اللآخر، أصبح من المستحيل تجاهل الافتراض القائل بأن مساحات الحقوق والديمقراطية آخذة في الانحسار.
تظهر هذة الإشكالية بشكل سافر إذا نظرنا إلى واحدة من أدوات الحركة الحقوقية الأساسية، وهي التقاضي الاستراتيجي. ففي أغلب الدول، يُعد اللجوء إلى المحكمة لنصرة حقوق الإنسان بمثابة مطالبة القضاة غير المنتخبين بأن يوقفوا ويقيدوا ويعاقبوا أعمال الساسة المنتخبين، أو امتناع هؤلاء الساسة عن الأعمال المنوطة بهم. ومع اكتساح الأغلبيات التي لا تحترم الحُرّية في جميع أنحاء العالم، تزيد الكراهية والتحقير من شأن المُثل التي تنهض عليها المقاضاة – من احترام للقانون وكشف الحقائق بحياد وتحقيق المحاسبة باستخدام القانون – وكأنها عقبات لا ضرورة لها تعترض طريق الإرادة الشعبية.
يا لها من لحظة يصعب فيها الدفاع عن التقاضي كاستراتيجية لنصرة الحقوق.
لكن دعوني أحاول.
نحن في مبادرة عدالة المجتمع المفتوح نشرنا مؤخرًا سلسلة دراسات ترصد أعمال أربعة أعوام من تقييم آثار التقاضي الاستراتيجي بمجال حقوق الإنسان في أكثر من عشر دول. ومن بين النتائج الأساسية للدراسة أن التقاضي يؤدي أحيانًا إلى عواقب سلبية، وأن المتقاضين في أحيان كثيرة أضرّوا المجتمعات التي تعاونوا معها، بدلاً من أن يرفعوا من شأنها، وأن التقاضي في أغلب الحالات قد تم بمعزل عن استراتيجيات أخرى لتحقيق التغيير. والشكاوى والانتقادات للتقاضي الاستراتيجي معروفة وقائمة منذ زمن طويل: العملية تستغرق وقتًا طويلًا للغاية، وتكاليفها باهظة بشكل مُحبط، والمحامون والقضاة فاسدون في بعض الدول، أو هم غير مؤهلين بالقدر الكافي، أو ليسوا متوفرين بأعداد كافية.
الحق أن التقاضي يتسم في الغالب بطابع من الخصومة تنتفي معه إمكانية تحقيق غايات مُثمرة. في حين يدعي البعض أن التقاضي يتحدى علاقات القوة غير العادلة، فإن التقاضي الحقوقي قد يعزز أيضًا "الوضع القائم" ويضفي عليه الشرعية، إذ هو يلتمس العون من النظام القانوني القائم ويعمل في إطاره. وقد يؤدي تكريس الجهود في التقاضي إلى الإنقاص من الجهود الأخرى الموجهة إلى استخدام أدوات أكثر فعالية للمناصرة والحشد. إلّا أنّ دراستنا المذكورة أظهرت أن اللجوء إلى التقاضي الاستراتيجي كجزء من استراتيجية متكاملة، قد أتى بفوائد حقيقية وملموسة.
ربما على المستوى الأوضح والأكثر مباشرة، يظهر التقاضي الاستراتيجي كوسيلة مؤثرة أسفرت عن نتائج مادية مباشرة لصالح المُدعّين، مثل القضية الخاصة بمدرسة في اليونان كانت تفصل بين التلاميذ من أقلية الروما والتلاميذ الآخرين، ومثل تزايد إتاحة مؤسسات رعاية الأطفال والحضانات في البرازيل، ومثل تقليل أعداد الأطفال المتسربين من التعليم في الهند، ومثل توفير الكتب المدرسية والطاولات والمقاعد للمدارس في جنوب أفريقيا. حتى في القضايا التي بدت في بدايتها غير واعدة بما يكفي، كما حدث في الأرجنتين، أثناء وبعد عهد الديكتاتورية فيها بمدة قصيرة، أتاح الحراك القانوني معلومات أسفرت عن ضغوط شعبية، ما أدى إلى محاسبة المسؤولين على جرائم خطيرة.
إلّا أّنّ التقاضي قد أسفر أيضًا عن تغييرات في القوانين والسياسات والسوابق القضائية المتوفرة. فالمحاكم في البرازيل وفي جنوب أفريقيا قد أبرزت ضرورة كفالة الحق في التعليم بشكل عاجل، إذ أنها أمرت بتدابير حكومية فورية على هذا المسار. وفي أوروبا، دفع التقاضي لصالح المحتجزين والسجناء إلى تغييرات تشريعية وسياساتية، من التوسع في إتاحة المحامين للمتهمين في تركيا، إلى تقليل ازدحام السجون بالنزلاء في إيطاليا. ولقد أدت أحكام قضائية صدرت في سياق حملة تدابير العلاج (TAC) إلى قيام حكومة جنوب أفريقيا بإنشاء أكبر برنامج مُمَوَّل حكوميًا في العالم لتقديم العلاج بمضادات الفيروسات القهقرية لمرضى فيروس الإيدز، وهي الحكومة التي كانت فيما سبق مُعارضة لمِثل هذا الإجراء.
ولعلّ أقوى آثار التقاضي، بحسب الدراسات المذكورة، هي الأبعد عن كونها ملموسةً؛ مع حدوث تغيرات في إحساس المدعين أنفسهم بالتمكين وبالقدرة على التأثير. هناك شخص من أقلية الروما في التشيك لخّص هذا الأمر في أعقاب حُكم محكمة ستراسبورغ في عام 2007 القائل للمرة الأولى بأن هناك نظامًا مدرسيًا يقوم بالتمييز بناء على العرق، إذ قال: "أخيرًا صدقنا أحدهم. تمكن شخص عادي من الوصول إلى المحكمة [الأوروبية لحقوق الإنسان] وقال لها الحقيقة".
بالنسبة إلى بعض من يخرجون من المحكمة منتصرين، فإن الآثار النفسية الإيجابية للتقاضي قد تكون كبيرة على المستوى الوجودي، حتى وإن كانت استفادة هؤلاء المنتصرين المادية لا تُذكر. استخدم المُدَّعين كلمات مثل "الأمل" و"الإحساس بانتصار الحق" و"التعافي" و"التصميم" والإحساس بـ "التشجيع" و"التمكين". على سبيل المثال، فإن قياديًا بمنظمة مجتمعية معارضة للعنصرية في فرنسا قد سلط الضوء على حجم الإنجاز المتحقق على مستوى تصورات المجتمع المتضرر مع وصفه رد فعل الأعضاء على إدانة استهداف الشرطة التمييزي للأفراد، في قضية تعود إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2016 أمام محكمة النقض، إذ قال:
بالنسبة لنا، ليست هذه مسألة قانونية تقنية. إذ أنّ الانتصار في هذه القضية أمام المحكمة مسألة معنوية؛ فبعد سنوات طوال من الظلم ربحنا قضية ضدّ الحكومة الفرنسية. المسألة ليست مسألة قضاء فحسب بالنسبة لنا. هي كذلك، لكنها أكثر من ذلك أيضًا. نحن الآن موقنون بأن النصر ممكن... لا يتعلق الأمر بالحصول على تعويض مالي أو إدخال أحدهم السجن؛ فمن يتم إيقافهم وتفتيشهم من قِبل الشرطة لا يريدون نقودًا، إنما يريدون الكرامة... يريدون اعترافًا رسميًا بالمشكلة... بأن ما حدث معهم كان خطًا. بصدور هذا الحكم، اعترفت المحكمة بنا كبشر، وكأنها تقول "أنتم منّا ومثلنا".
هذه الصنوف من الآثار الإيجابية لا تُلغي التكاليف أو المخاطر أو تقلل من ضرورة التفكير والتشاور والتخطيط الاستراتيجي مع الأطراف كافة قبل الذهاب إلى المحكمة. لكن هذه الآثار الإيجابية قد تفسر لماذا شهدت السنوات الثلاثين الأخيرة تزايدًا كبيرًا في التقاضي الحقوقي، ليس فقط في الأماكن التي لديها تاريخ طويل من هذا النشاط، إنما أيضًا في دول لا تأخذ بنظام تقنين السوابق القضائية، والتي ليس لديها تاريخ كبير من التقاضي لإنجاز سوابق قضائية فارقة، من لبنان إلى مصر، ومن روسيا إلى قرغيزستان، ومن كولومبيا إلى تشيلي.
إنّ عملية صوغ الدعاوى القانونية والوصول إلى أحكام، في إطار مقاربة الاستحقاق والالتزام القانونيين، لهي عملية تستفز وتعيد تأكيد وتبدّل – في بعض الأحيان – الوعود المُعتبَرة والصريحة التي تقطعها المجتمعات على نفسها. فما يقوله القضاة بشأن القانون يكون له في الغالب قيمة أكبر من مطالبات منظمات المجتمع المدني الكبيرة، ومن تصريحات المسؤول الإداري، بل إن قيمتها أكبر حتى من أقوال مسؤول حكومي كبير. فعبر التقاضي يجري اختبار تداعيات النصوص القانونية متجسدة في ممارسات الواقع المُعاش. من المؤكد أن لحقوق الإنسان أبعاد عديدة تتجاوز القانون نفسه، إلّا أنّ التقاضي يعتمد على فكرة أن تلك الحقوق المقننة في قوانين مدوّنة، يجب أن تسري في الحياة العملية وأن تفرضها المحاكم. من هذا المنطلق، تظهر أهمية التقاضي الاستراتيجي البالغة في تفعيل حقوق الإنسان على أرض الواقع.
يمكن إذن للتقاضي أن يؤدي دوره كدعامة قوية وفعالة تحول دون الانزلاق والانحدار، لا سيما فيما يخص النُظم القانونية التي تعطي ثِقلًا كبيرًا ومعتبرًا للسوابق القضائية؛ فتجاهل الحكومة – أي حكومة – لحُكم قضائي هو أمرٌ أصعب من قيامها بعرقلة مظاهرة جماهيرية أو تجاهلها لعريضة مرفوعة إليها. الرياح السياسة تغير مساراتها، والحكومات تصعد وتسقط، والرأي العام مُتقلب، لكن أحكام المحاكم تختلف لأنها مُلزِمة قانونيًا؛ فالدول مُلزَمَة بقوة القانون بأن تتعاطى معها.
ربما لهذا السبب تمادى المُستَهْدَفون بالتقاضي الاستراتيجي في بذل الجهود للانقلاب على أحكام القضاء أوتعطيلها أوتجاهلها. فمن إغلاق المحكمة الإقليمية التابعة للجماعة الإنمائية للجنوب الأفريقي (سادك) إثر إصدارها لحُكم مثير للجدل ضد زيمبابوي، إلى تكرر هجمات قادة سياسيين بريطانيين على محكمة ستراسبورغ، ومن الهجمات الكلامية على قضاة الولايات المتحدة، إلى عزل قضاة مستقلين في محكمة الفلبين العليا، إلى تفكيك بولندا لنظامها القضائي، تعرضت المحاكم للعدوان تحديدًا لأن التقاضي قادر على إحراج الحكومات، وتحجيم سلطاتها الخاصة بصناعة القرار، وإلزامها بتغيير السياسات والممارسات.
إلّا أنّ المحاكم – في عالم تزداد السلطوية فيه بشكل مطرد – تبقى من المساحات القليلة التي يمكن تحدي السلطة فيها، والجهر بالمعارضة، وتحقيق المحاسبة المستقلة.
المؤكّد أن التقاضي الاستراتيجي الحقوقي لا يمكنه أن يحلّ محلّ التنظيم السياسي والحملات السياسية. ففي أفضل الأحوال، يمكن للتقاضي الاستراتيجي أن يكمّل استراتيجيات أخرى من أجل التغيير. لكن مع تزايد تعرض الحقوق الأساسية للتهديد، فلابد أن يبقى التقاضي جزءًا لا يتجزأ من الردّ.