أحد الأسئلة الملحة التى تواجه أياً من مدافعى حقوق الإنسان أو دارسيها هو تحت أى ظروف تصبح حقوق الإنسان خطراً حقيقياً مهدداً للبنى المهيمنة. الهجوم الأخير على منظمات حقوق الإنسان فى إسرائيل يلقى بعض الضوء على هذا التساؤل.
فجماعات حقوق الإنسان فى إسرائيل، وبشكل خاص تلك الجماعات التى تركز على حقوق الفلسطنين المحتلين، تم انتقادها من قبل حكومات مختلفة ومجموعة من الشخصيات الفاعلة فى التيار المحافظ لسنوات. وعلى الرغم من هذا، لم يحدث أن تم اعتبار منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية تهديداً للأمن ويتحتم احتواؤها من خلال التشريعات القمعية وحملات التحريض إلا منذ وقت حديث نسبياً.
وقد قام العديد من المثقفين بتصوير هذا الهجوم المكثف على منظمات حقوق الإنسان على أنه جزء من صراع القوى الليبرالية وغير الليبرالية بداخل إسرائيل. ورغم أن هذا الأمر صحيح بالفعل، خاصة بالأخذ فى الاعتبار الفاشية المتأصلة لبعض الأحزاب السياسية حالياً فى الحكومة، إلا أن الصراع بين هذين الفريقين لا يفسر بشكل كامل هذا التصعيد الحاصل مؤخراً.
فموجة القمع هذه يجب أن تُفهم من خلال ربطها بالمنظور الذى ترى به الدولة المنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان كتهديداً للتحصين المستمر للمشروع الصهيونى. فموجة القمع هذه يجب أن تُفهم من خلال ربطها بالمنظور الذى ترى به الدولة المنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان كتهديداً للتحصين المستمر للمشروع الصهيونى.
فخطر حقوق الإنسان أنها تهدد الدولة العرقية.
وقد كان إصدار تقرير غولدستون- من قبل بعثة الأمم المتحدة والذى قامت فيه بالتحقيق فى دعاوى الانتهاكات الإسرائيلية والفلسطينية للقانون الدولى أثناء حرب غزة فى عامى 2008-2009- بلا شك حداً فاصلاً فى الحملة ضد حقوق الإنسان. فبعد سويعات قليلة من نشر التقرير، قامت مراقبة المنظمات غير الحكومية بإصدار بيان صحفى واصفة التقريربوثيقة من منظمة غير حكومية تم "قصها وإلصاقها". وجاء الزعم بأن جزءً كبيراً من النتائج التى قامت عليها التقارير والإفادات قامت بتقديمها منظمات حقوق الإنسان المتحيزة، العديد منهم منظمات إسرائيلية.
وخلال يومين، ردت وزارة الخارجية الإسرائيلية زاعمة أن تقرير غولدستون "يقيد أيدي الدول الديموقراطية التى تحارب الإرهاب في أنحاء العالم ويشكك في شرعية النظم القانونية الوطنية والتحقيقات ويعزز الإجراءات الجنائية ضد القوى المواجهة للإرهاب في الدول الأجنبية كما يحاول توسيع إختصاصات المحكمة الدولية الجنائية إلى ما يتخطى نطاقها."
وأكد نائب وزير الخارجية الإسرائيلى آنذاك، دانى أيالون، على أن "الخنادق اليوم أصبحت فى جنيف فى مجلس حقوق الإنسان، أو فى نيويورك فى الجمعية العامة، أو فى مجلس الأمن، أو فى لاهاي، أو فى محكمة العدل الدولية".وفى اليوم العالمي لحقوق الإنسان فى عام 2010، استنكر أيالون "الاستغلال المتحيز لحقوق الإنسان" من قبل المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان، وفى مؤتمر صحفى مشترك مع ممثل مراقبة المنظمات غير الحكومية، زعم فيه أن "اليوم العالمى لحقوق الإنسان قد تحول إلى اليوم العالمى لحقوق الإرهاب." وتم تصوير حقوق الإنسان على أنها أحد مروجي "الحرب القانونية"- أداة قانونية تستخدم من قبل الشخصيات غير الحكومية لتهديد الدول الليبرالية ولتحقيق أهداف عسكرية - وتتسم بتهديد الأمن.
التهديد الذى كان يشير إليه أيالون لا علاقة له بتطرف المنظمات غير الحكومية الليبرالية الإسرائلية المعنية بحقوق الإنسان فى الأعوام الأخيرة. فهذه المنظمات غير الحكومية لا تزال تقدم التقارير للأمم المتحدة وتتبع إستراتيجيات مشابهة منذ أواخر الثمانينات. ولم يقوموا، على سبيل المثال، بتحويل أنفسهم إلى حركات اجتماعية شعبية أو ضموا أسمائهم إلى الحملة العالمية المتنامية لمقاطعة إسرائيل، وسحب الإستثمارات، وفرض العقوبات عليها، والتى تبنت نهجاً سليماً فى الدفاع عن حقوق الإنسان.
צילום: איציק אדרי/Wikepedia (Some rights reserved)
The Israeli Parliament.
بل إن تحويل المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان إلى تهديداً يستلزم الإستخدام المتزايد للولاية القضائية العالمية فى المحكمة الجنائية الدولية، بالإضافة إلى المحاكم الإقليمية والمحلية،هذا إلى جانب حقيقة أن المعلومات التى تظهرها منظمات حقوق الإنسان يتم استخدامها كدليل على الانتهاكات الصارخة فى هذه المحاكم. ولكن يمكن التبين أيضاً من خلال التآكل المتزايد للشرعية الدولية لسياسات إسرائيل التمييزية إزاء غير اليهود فى الأراضى الفلسطينية المحتلة وفى إسرائيل. إن الخطر بمعنى آخر، ينبثق من تغييرات على نطاق أوسع فى الساحة الدولية وهو خطرمنظم.
ولتوضيح المعنى بشكل آخر، من وجهة نظر قانونية، فالمنظمات الإسرائلية لم تشكل يوماً خطراً على دولة إسرائيل. فعرائض هذه المنظمات غير الحكومية قُدمت إلى النظام القضائى المحلي، وهو المدرج فى جهاز الدولة ولطالما دعم ممارسات الدولة من السلب والعنف.
بل إن الخطر هو نتاج سنوات طويلة من العمل، والذى يوضح كيف يمكن فى بعض الأحيان للمثابرة والكم خلق تأثيرات سياسية غير متوقعة.فالبيانات الصحفية، والتقارير، وصحائف الوقائع، والخرائط، والصور، ومقاطع الفيديو التى أنتجتها هذه المنظمات غير الحكومية (والمنظمات الفلسطينية) يتم تداولها فى فضاء الإنترنت منذ عدة سنوات الآن. وعلى مدار العقد الأخير، استجاب جمهور عالمى من المناصرين على نطاق أوسع لهذه المعلومات. وبالتدريج، فقدت نظرية حق إسرائيل فى الممارسات الإعتدائية بشكل مؤقت وأن تطبيقها يتم فقط للرد على العنف الفلسطينى كل مصداقيتها. وبشكل متزايد، نجح دليل الإعتداءات على توليد حرجاً دبلوماسياً وإشعال حملات سياسية ذات قواعد شعبية عالمية.
ما يقلق قوات القمع فى إسرائيل هو حقيقة أن أدلة الانتهاك المنظم والتى قامت المنظمات المحلية غير الحكومية والمعنية بحقوق الإنسان بتجميعها –بدعم من تمويل عالمى – تجاوزت حدود النقاش المحلى. فهم مهددون لأن إتهامات الاعتداء تنهال عليهم مكونة أرشيفاً هائلاً من عنف الدولة المنظم، وهو أرشيف لا يمكن احتوائه بعد الآن فى فضاء الدولة القانونى والسياسى والرمزى. وأقول معيداً ما قاله أنطونيو جرامشي، القوات القمعية مهددة الآن لأن الدولة لم تعد قادرةعلى استيعاب حقوق الإنسان.