اعترافاً بقصور الضغط الخارجي الموجه لحكومات دول نصف الكرة الجنوبي، أصبحت منظمات حقوق الإنسان الشمالية بشكل متزايد تقوم بما يُعرف باسم "التدويل" من خلال تعيين طاقم عمل وإقامة مكاتبها مباشرة في الجنوب. في عام 2017، قامت مؤسسة أوك (Oak Foundation) بالتواصل معي لتقييم استراتيجية التدويل لأحد أهم منظمات حقوق الإنسان الرائدة. وتضمن البحث عدة مقابلات مع أعضاء الحكومة والمفكرين ومراكز الفكر وجماعات حقوق الإنسان والنقاد في البرازيل والهند وجنوب أفريقيا بالإضافة إلى قيادات المنظمة في مقراتها الشمالية وأربع دول في نصف الكرة الجنوبي مع استقصاء قصير لشركاء حقوق الإنسان.
وجاءت نتائج بحث هذا التقييم لتشير إلى مكاسب هامة وثمينة لحقوق الإنسان تم تحقيقها في نصف الكرة الجنوبي، ولكن فوائد أكثر تحديداً للجماعات الشمالية. بالفعل، فما يجري الآن من تحول المنظمات الشمالية إلى المحلية في نصف الكرة الجنوبي يمكن أن يعيق المنظمات المحلية التي تعمل على بناء دوائر حقوق الإنسان تعني بحقوق الإنسان وحركات أساسية لتحقيق حكومات تحترم حقوق الإنسان وتخضع للمساءلة عند التقصير.
التواجد المستمر لمنظمات حقوق الإنسان الشمالية في نصف الكرة الجنوبي من شأنه أن يحسن ويطور الأول كما يتيح لها فرصة التحول للأفضل: فطاقم العمل المحلي الخاص بهم سيكون على معرفة ودراية أكبر بالحقائق المحلية والفروق الدقيقة بينها ومن غير المحتمل (أو لن يستطيعوا) أن يتواصلوا مع شركائهم المحليين على أساس منفعي بحت، بل في الأغلب سينظرون لأهداف حقوق الإنسان بعيون أكثر انفتاحاً ودراية بالتحولات الاجتماعية والسياسية المطلوبة على النطاق الأوسع. فإمكانية الوصول الأكبر لطاقم العمل ذي التواجد الداخلي من المحتمل أن تجعلهم أكثر قابلية للمساءلة على يد شركائهم المحليين والمجتمعات الأخرى من أي طاقم عمل آخر يعمل عن بعد في مقراتهم في نصف الكرة الشمالي. وهناك، في المقرات المتواجدة بنصف الكرة الشمالي، والتي عادة ما كانت ترفض النقد من نظرائهم في نصف الكرة الجنوبي فمن غير المحتمل (أو لن يكون في استطاعتهم) تجاهل هذا النقد إذا ما كان من طاقم عملهم في الجنوب، فدوافعهم لن تكون محط الشكوك وإثارة للجدل بسهولة.
من خلال العمل مع نظرائهم من الجنوب، تمكنت المنظمات الشمالية من تحقيق مكاسب هامة وقيمة على الرغم من تطورها المجزّأ في نطاق عريض من قضايا حقوق الإنسان والسياسات والتشريع وغيرها في كافة أرجاء الجنوب. ولكن الكثير من تلك التقدمات لن يحقق التغيرات المنهجية التي طال السعي إليها والممكنة فقط إلا من خلال الحركات الداخلية القوية. فبدون الجماهير المستنيرة التي تتوقع ممن يحكمونها العمل على تأدية واجباتهم باحترام وحماية وإعمال حقوق الإنسان، ستظل تلك المكاسب جزئية وهشة. حتى في الشمال، بالرغم من وجود مؤسسات سياسات نيابية راسخة، إلا أننا ندفع ثمن فشلنا في نشر الوعي بين العامة بفهم واحترام حقوق الإنسان.
فلو اتفقنا على أن الحركات الداخلية هي الدعامات الأساسية لتحقيق الهدف المنشود وهو حكومات تحترم حقوق الإنسان وقابلة للمساءلة، إذن فمنظمات حقوق الإنسان - الشمالية والجنوبية على السواء - عليها تقييم جميع ما يقومون به من حيث التأثير على جهود التشكيل والمشاركة وحشد الدوائر الانتخابية المحلية لحقوق الإنسان. بالنسبة للجماعات الشمالية المستوطنة في الجنوب، فهذا يتطلب منهم الاهتمام الدقيق بأربع وجهات.
الأولى وقبل كل شيء، لابد وأن يواجه التدويل الشمالي أولويات حقوق الإنسان المحلية، وليس الأولويات التي يراها النصف الشمالي أهم لنظيره الجنوبي. فجميع حقوق الإنسان متساوية في الأولوية والأهمية، ولكنها لا تتساوى بنفس القدر أو الاستراتيجية في كل سياق. ولذا، عند اختيار القضايا التي يتم التصدي لها، فعلى الجماعات الشمالية أن تتبع أولويات نصف الكرة الجنوبي وليس العكس. فتكلفة الخطأ في ترتيب تلك الأولويات هي الأضخم في الجنوب، وعادة ما يتجاوز النشطاء الجنوبيون النجاحات الصغيرة والخاصة بقضايا بعينها قصيرة المدى، ليعنوا بتلك التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ذات النطاق الأكبر والأطول أجلاً. فالاهتمام المبكر الذي يوليه نشطاء حقوق الإنسان الجنوبيون للتحالفات الاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية مع حركات التغير الاجتماعي الداخلي - النشطاء المعنيين بمشاكل الفقراء وغير المالكين للأراضي والسكان الأصليين والعمل والبيئة على سبيل المثال لا الحصر - هي الدليل القاطع على هذا.
وهذا يعني أن تبني مناهج استراتيجية واستباقية تدفع العامة والجماهير بعيداً عن الزعماء الشعبويين القوميين، مثل التصدي لقضايا حقوق الإنسان المحروم منها الأقليات ومعظم أفراد الأغلبية على السواء؛ أو إنشاء مبادرات تناسقية لتوضيح نطاق حقوق الإنسان والجهود المناهضة لها والتي تخدم وتصب في مصلحة مجموعة واحدة فقط أو أخرى. ففي نهاية الأمر، الحكومات التي تحترم حقوق الإنسان ليست فقط أفضل وسيلة حماية للمهمشين، ولكنها تصب في مصلحة الأغلبية العظمى أيضاً، في كل مكان. وهذا الأمر يحتاج إلى تأسيس دوائر حقوق الإنسان
الوجهة الثانية، بكل ما تمتلكه منظمات حقوق الإنسان الشمالية من قدر أكبر من الموارد ومكانة عالمية وصوت مسموع، قد يكون لهذه الإمكانيات أثراً في تقزيم الأصوات المحلية وحتى الداخلية المنادية بحقوق الإنسان. فمن بين الأسس المنطقية التي يقوم عليها توطين المنظمات الشمالية هو الانتقال من مرحلة "الإشهار والفضح" إلى مرحلة "المشاركة والتأثير" في القطاع المستجيب من النخبة السياسية الدولية ووسائل الإعلام في الجنوب. وفي أغلب الأحوال عادة ما يكون هذا القطاع من المستجيبين والمنسجمين بشكل واضح مع الأصوات الشمالية بشكل يفوق استجابتهم وانسجامهم مع أفراد مجتمعهم –، وهذه نقطة كثيراً ما يستغلها الزعماء الشعبويين القوميين لصالحهم وبشكل فعال. فما نحتاجه هو أن يصبح هؤلاء في موقع الحكم أكثر استجابة للدوائر الانتخابية الداخلية لا المنظمات الشمالية.
الوجهة الثالثة، نظراً لعدم التوزان المستمر والفاضح في التمويل، فالمنظمات الجنوبية عادة ما تكون في وضع غير مؤات مقارنة بشركائها الشماليين ممن يحظون بتمويل جيد. النشطاء الشماليون الذين يعملون في الجزء الجنوبي من المعنيين بمنظمات غير منظماتهم يدركون جيداً أن توزيع الموارد بشكل متساوي سيخدم أهداف حقوق الإنسان بشكل أفضل. فتمويل جماعات حقوق الإنسان الجنوبية، لابد وأن يكون له الأولوية، ولا ينبغي لجماعات حقوق الإنسان الشمالية أن تتنافس مع نظيرها الجنوبي على التمويل من الموارد المحلية. فهذا الأمر يتجاوز مبدأ العدالة والمساواة فحسب؛ لأن نقاط الضعف لدى جماعات وحركات حقوق الإنسان الجنوبية هي التي تعرقل تحقيق وإعمال حقوق الإنسان وليس تلك الشمالية.
أخيراً، بحكم الرواتب الأعلى بكثير والمكانة الدولية، يمكن للمنظمات الشمالية أن تُبعد الممارسين المحليين من المنظمات المحلية، وهو تحدي آخر يواجه مجهودات تقوية دعائم مجتمعات حقوق الإنسان المحلية. فإن كانت القدرات والطاقات المحلية والعمل على تأسيس الحركة لها الأولوية الصحيحة على المكاسب قصيرة المدى، فالمنظمات غير الحكومية الشمالية المشتغلة بالتوطين، بحاجة إلى بحث بدائل أخرى. وقد يشمل هذا الاستثمار في تدريب المجندين الشباب والذي من خلالهم بإمكانهم توسيع دائرة مجتمع الممارسين. ومرة أخرى، يتطلب تحقيق هذا أن يكون للأهداف طويلة الأجل الأولوية على تلك قصيرة الأجل.
كيفية قيام المنظمات بالتصدي لتلك المشكلات وغيرها الناجمة عن توطين المنظمات الشمالية في الجنوب، يعتمد بلا شك على تفهمهم لكيفية تحقيق وإعمال حقوق الإنسان. فالمنظمات التي تعترف بحتمية بناء الطاقات المحلية المعنية بمساءلة الحكومات عن واجباتها، ستهتم وتعني بتلك المخاوف على الفور: وستقوم باحترام الأولويات المحلية وتفضيل الاستجابة على الأصوات الداخلية والعمل على جمع تمويل للجماعات الداخلية والإضافة إلى طاقات وإمكانيات المجتمعات الداخلية. إما تلك المنظمات الشمالية التي تصر على انها الدعامة الأساسية للتغيير في الجنوب، قد تستمر في القيام ببعض الأعمال الجيدة حقاً، ولكنها ستعرقل وتعطل أي تغيير منهجي مطلوب للتحقيق التام والكامل لحقوق الإنسان.