في حين تُعد العدالة الجنائية جزءًا ضروريًا كل الضرورة من ترتيبات العدالة الانتقالية المختلفة، فالجبر يتمتع بنفس القدر من الأهمية، وإن كان يُنسى في أحيان كثيرة. فالمحاكمات الجنائية وبشكل عام ليست بالطريقة الأنسب لتقديم الجبر، فالعدالة الجنائية قادرة في أفضل الأحوال على تيسير التعويض المادي. وعلى الجانب الآخر ونظرًا لاتساع نطاق الفظائع الجماعية، وحقيقة أن الجناة في أحيان كثيرة يكونون من الفقراء، ففرصة حصول الضحايا على التعويض عبر المداولات الجنائية ما زالت قاصرة للغاية.
إن التزام الدولة بتقديم الجبر لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان من الأفراد، هو التزام تنص عليه مواثيق ومعاهدات حقوق الإنسان الدولية. لكن الجبر – بصفته الجبر على الضرر اللاحق بالفرد عن طريق إعادة الوضع إلى ما كان عليه، والتعويض المادي، وإعادة التأهيل، واستيفاء وضمان عدم تكرر الانتهاكات، قد ورد صراحة مرة واحدة في نصّ المعاهدة الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري. وفي معاهدات حقوق الإنسان الأخرى، لا يُذكر الجبر بصورة صريحة بالمرة (وإن كان مشتقًا من الحق في الانتصاف الفعال) أو هو يُكفل بشكل جزئي (على سبيل المثال فإن اتفاقية مناهضة التعذيب تتحدث عن التعويض وإعادة التأهيل فقط). ومع إلقاء نظرة فاحصة، نجد أن هذه المواثيق تطالب الدول – بموجب مبدأ الضرورة الاستتباعية – بضمان وصول الضحايا إلى آليات الجبر التي تتيحها نظمها القانونية المختلفة. يختلف هذا بكل وضوح عن النص صراحة على الحق الفردي في الجبر. كما أن القانون الدولي الإنساني يخلو تمامًا تقريبًا من حقوق الضحايا في الجبر. من ثم، فإن الحق في الجبر كما نعرفه حاليًا ربما يتشكل بناء على ممارسات هيئات حقوق الإنسان الدولية، وقد ذُكر وحُدد في مواثيق القانون الناعم، أي الوثائق القانونية غير المُلزمة. يؤدي هذا إلى إضعاف القول بالواجب المترتب على الدولة بضرورة ترجمة "الجبر" إلى حق فردي "قائم بذاته".
ثمة أسئلة محورية عديدة متصلة بإعمال وتحقيق المطالبات بالجبر: هل يوجد – بالإضافة إلى القوانين المحلية والمعاهدات الدولية – أية أسانيد أخرى في القانون الدولي لالتزام الدول بتوفير الجبر؟ كيف يمكن للضحية إنفاذ حقه في الجبر؟ وكيف يمكن إلزام الدولة بالوفاء بالتزاماتها – إن وُجدت – في تقديم الجبر؟ وليس من المستغرب أن هذه الأسئلة لا تزال بلا إجابات مُقنعة.
إذا كانت مطالبات حصول ضحايا النزاعات المسلحة على الجبر تنبع حقًا من حقوق الإنسان الخاصة بهم، فعلينا إدراك أن المحافل المتاحة لإنفاذ هذا الحق إما هي غائبة تمامًا أو قاصرة كل الاقتصار. كما أنه وبالنظر إلى التقدم الذي أحرزته العدالة الدولية على مدار العقود الماضية، لم تواكبها بالمرة منجزات مماثلة على مسار تقديم القضاء للتعويض والجبر لضحايا النزاعات المسلحة.
على سبيل المثال، فإن المحاكم التي تشكلت لملاحقة ومقاضاة الأفراد المتهمين بجرائم دولية في يوغوسلافيا السابقة ورواندا، لم تتح الجبر للضحايا في أحكامها ولم تشمل حيثياتها ومداولاتها الحديث عن الجبر للضحايا. وهناك عدة مبادرات قُدمت إلى مجلس الأمن لإنشاء هيئات نظيرة تُعنى بالجبر، بحيث تتعاطى مع ما أخفقت المحاكم المذكورة في التعاطي معه فيما يتعلق بالجبر. على مستوى الدوائر الاستثنائية بمحاكم كمبوديا، كانت نتائج هذه الدعاوى المتمثلة في نهج جديد – بموجبه تم الاعتراف ببعض الضحايا كأطراف مدنية في المداولات الجنائية – غير مُرضية بالقدر الكافي. هذا فضلًا عن أن محكمة كمبوديا الخاصة لا يمكنها إلا تقديم الجبر المعنوي والجماعي، إلى جانب أن المداولات المطولة لها آثارها السلبية على الضحايا الذين يكافحون يوميًا لتلبية احتياجاتهم.
وفي مثال آخر، فإن دوائر المحكمة الأفريقية الاستثنائية أصدرت حكمًا غير مسبوق ضد الدكتاتور التشادي المعزول حسن حبر أمرت بموجبه بتعويض 150 مليون دولار يُقسم على أكثر من 7000 ضحية. وفي حين تم إنشاء صندوق يديره الاتحاد الأفريقي بهذا المبلغ، فلم يحصل الضحايا على النقود، وفي النهاية تقدموا بدعوى أمام المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب لتحصيل التعويضات من الصندوق.
وبالمثل، فإن جهود الأمم المتحدة في كل من سوريا والعراق كانت إلى جانب تركيزها على إنهاء النزاع وتوفير المساعدات الإنسانية، تركز بالأساس على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان، بهدف تقديم المسؤولين عنها إلى العدالة، وهي محقة في تركيزها على هذه القضية. إلّا أن ولايات الهيئات الثلاث التي تشكلت لهذا الغرض لم تشر إلى الحق في الجبر ولو حتى بشكل عابر.
وعلى مستوى المحكمة الجنائية الدولية، تم إحراز قدر من التقدم فيما يخص تعامل هيئة المحكمة المختصة بالجبر، وهي صندوق الضحايا. لكن هذا الصندوق لا يمكنه التعامل إلا في المواقف التي للمحكمة ولاية قضائية عليها. وبسبب الطبيعة التطوعية لتمويل الصندوق، فإن قدرته على الوصول للمستفيدين وتأثيره قاصران إلى حد بعيد. والمحكمة الجنائية الدولية نفسها أوضحت أن الأمر الخاص بقواعد الجبر خاصتها "لا يحل الدول من التزاماتها المنفصلة بموجب القوانين المحلية والمعاهدات الدولية، بتقديم الجبر لمواطنيها". لكن وجود وسمات ونفاذ "التزامات الجبر" الأخرى هذه هو الذي يمثل جوهر المشكلة.
لكن إذا نظرنا إلى ما يكمن وراء حدود القانون الدولي الوضعي، فسوف نرى جملة من المصادر والآليات الواعدة القادرة على تيسير إعمال الحق في الجبر. على سبيل المثال فإن إدانة مسؤول رفيع بالدولة في محكمة دولية لا ينشط بصورة تلقائية مسؤولية الدولة عن تقديم الجبر للضحايا. عدم الاتساق هذا يعامل المسؤول الحكومي المُدان وكأنه كان يعمل في فراغ، وكأن الشخص الذي أمر بأفظع الجرائم أو قبل بارتكابها فعل هذا لصالح تحقيق مكاسب شخصية أو للاستمتاع بارتكابها.
بالمقارنة، فلننظر إلى الالتزام بمنع وقوع أعمال الإبادة الجماعية. فعلى النقيض من التزامات الدولة الأخرى، ينفصل هذا الالتزام عن مفهوم الولاية القضائية. أي أن محكمة العدل الدولية ارتأت أن على كل دول العالم التزام بمنع وقوع الإبادة الجماعية، بالدرجة المتناسبة مع قدرتها على التأثير في الفاعلين بمنطقة وقوع الجريمة. أي أن أية دولة تخفق في الوفاء بواجبها هذا بمنع الإبادة الجماعية، عليها – وبدرجات متفاوتة – تحمل المسؤولية عن الجبر على الضرر الواقع.
وبالمثل، فإن إخفاق الدول في بذل قصارى جهودها لحماية الأفراد الخاضعين لولايتها من الضرر الذي تلحقه بهم الدولة والفاعلين غير التابعين للدولة، يؤدي إلى التزامها بتقديم الجبر. ولكن قد تكون هناك حاجة إلى إعادة الهيكلة الراديكالية للقانون الدولي في هذا الصدد. ويستتبع هذا إعادة النظر في دوجما القانون الدولي القائمة، مثل مبدأ الحصانة القضائية للدول. وعلى الأخص، فإن من الضروري السماح لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة والانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني – في ظروف معينة – بأن يرفعوا قضايا ادعاء بالحق المدني أمام المحاكم، ضد الدول التي تعد مسؤولة عن الانتهاكات، لالتماس الانتصاف على الضرر اللاحق بهم. ولسوء الحظ، فمحاولات الناجين من الفظائع المرتكبة في اليونان أُثناء الحرب العالمية الثانية – فضلاً عن محاولات الضحايا المدنيين الأفغان في غارة جوية – للحصول على الانتصاف من ألمانيا أمام محاكم إيطالية وألمانية، لم يصادفها النجاح حتى الآن.
إن إنهاء الإفلات من العقاب – على أهميته – يجب ألا يُنظر إليه بصفته الدواء الناجع لكل داء. فتأمين الامتيازات المادية الملموسة للضحايا على مدار فترة قصيرة زمنيًا هي قضية يجب أن تنال الأولوية المستحقة، والإطار الأنسب لتحقيق هذا هو برامج الجبر المتكاملة. هناك بالفعل محافل غير قانونية مناسبة للدفع بهذه البرامج قدمًا: زيادة الضغوط على الدول المسؤولة لتشكيل وتمويل برامج الجبر الوطنية، وزيادة مشاركة الدول الغنية في صناديق الضحايا المختلطة، وتأهب المنظمات الدولية والدول الثرية لشطب أجزاء من ديونها الخارجية المترتبة على الدول المستعدة للمضي قدمًا في برامج الجبر، وما إلى ذلك. وأخيراً، والأهم، فمن الضروري ألا يقتصر الأمر على تقديم برامج الجبر المتكاملة أثناء التفاوض على إنهاء النزاعات. فمن الضروري جعلها شرط مسبق للحصول على تمويل إعادة الإعمار بعد انتهاء النزاعات وفي سياق المساعدات التنموية.
لكن في غياب الإرادة القوية من المجتمع الدولي لفرض أجندة الجبر الملموس والحقيقي، تبقى فرص الضحايا في إعمال حقهم في الجبر قليلة وغير واقعية.