تلجأ النظم الأوتوقراطية حول العالم إلى حبس الأفراد لأسباب سياسية. في الوقت نفسه، تكاد لا توجد حكومة في العالم تقرّ بوجود معتقلين سياسيين في سجونها. بما أن الاعتقال السياسي يمثل انتهاكاً كبيراً لحقوق الإنسان بحسب القانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن لدى الحكومات دوافع قوية لنفي الصفة السياسية عن تلك الاعتقالات. ومن أجل إخفاء الدوافع السياسية، تلجأ الدول الأوتوقراطية إلى إعطاء تلك الاعتقالات مظهراً قانونياً. هذا المقال يناقش خمس استراتيجيات (غير) قانونية كبرى كثيراً ما تُستخدم لتبرير الاعتقال السياسي.
أولاً، يتم حبس المعارضين حول العالم بموجب قوانين "تحريض" فضفاضة التفسير. هذه القوانين ضد الأفعال المناوئة تُقنن في قوانين العقوبات بعدة دول، وكثيراً ما يُساء استخدامها في تجريم أي نوع من أنواع المعارضة للسلطة. على سبيل المثال، كثيراً ما تحبس تايلاند معارضيها على أساس قانون "المساس بالملك" (مادة 112 من قانون العقوبات) الذي يعتبر أي انتقاد للملك جريمة. بالمثل، فإن القانون الذي يجرم "ازدراء رأس السلطة" (المادة 158 من قانون العقوبات) في الغابون كثيراً ما يُستخدم في ملاحقة المعارضين. وتميل فيتنام إلى اتهام معارضيها بتهمة "الدعاية ضد الجمهورية الاشتراكية" (المادة 88 من قانون العقوبات). هذه القوانين بينها أمر مشترك، هو أنها تمثل السند القانوني للاعتقال السياسي، بشكل يسمح للقضاء بحبس المعارضين ضمن عملية التقاضي الرسمية. لكن هذه القوانين في حد ذاتها تمثل انتهاكاً لحقوق الإنسان الأساسية، ومنها الحق في حرية التعبير.
ثانياً، تميل الحكومات إلى استخدام "قوانين مكافحة الإرهاب" في تبرير الاعتقال السياسي. من خلال إعلان المعارضين إرهابيين، تسعى الحكومات إلى نزع الشرعية عن مطالب المعارضة إذ تربطها بالعنف والفوضى. يجري استخدام وسم "الإرهابي" التهييجي هذا في عدد من الدولة، منها سوريا في عهد الأسد وروسيا في عهد بوتين، وأيضاً في الولايات المتحدة أثناء "الحرب على الإرهاب" بعد حادث 11 سبتمبر/أيلول.
تنص قوانين العقوبات في عدة دول على نصوص صريحة متعلقة بمكافحة الإرهاب، يجري استغلالها في معاقبة المعارضين. على سبيل المثال، فإن نظام أردوغان في تركيا يستخدم قانون مكافحة الإرهاب بشكل مفرط في حبس أعضاء حركة غولن أو الحركة الكردية الانفصالية (قانون مكافحة الإرهاب رقم 3713، مادة 7/2). ويجرم قانون العقوبات الروسي "المشاركة في أنشطة المنظمات المتطرفة" (مادة 282، 2-2). ولقد اعتمد نظام دوتيرتي في الفلبين مؤخراً قانوناً لمكافحة الإرهاب به تعريف فضفاض للإرهاب. قال نائب مدير قسم آسيا في هيومن رايتس ووتش إن "قانون مكافحة الإرهاب كارثة على حقوق الإنسان يجري تحضيرها". على المجتمع الحقوقي أن يعي بهذه التشويهات لوسم الإرهاب، بما أن الكثير من "الإرهابيين" المحتجزين لا هم إرهابيون ولا يتبنون العنف منهجاً.
ثالثاً، تستعين الحكومات الأوتوقراطية بما يُدعى "قوانين الطوارئ" لتبرير حبس الخصوم السياسيين. تميل قوانين الطوارئ إلى توسيع سلطات الذراع التنفيذية بالدولة على السلطة القضائية. لكن مصطلح "الطوارئ" يُساء استخدامه كثيراً أيضاً. بدلاً من اعتبار الطوارئ أداة تتم الاستعانة بها في الظروف الاستثنائية، فالكثير من الحكومات لا تلغي حالة الطوارئ قط. على سبيل المثال، فعّل الديكتاتور المصري السابق مبارك أعمال اعتقال جماعي كثيرة بناء على قانون طوارئ طُبق لأكثر من ثلاثين عاماً. ومؤخراً، ظهرت مخاوف حول قوانين الطوارئ المتصلة بجائحة كوفيد-19 في دول مثل الفلبين والأردن والمجر، ربما استغلت فرض حالة الطوارئ في تنفيذ اعتقالات سياسية. تميل الحكومات الأوتوقراطية إلى إثارة البواعث الأمنية كذريعة لحبس الخصوم السياسيين الذين تنظر إليهم بصفتهم يهددون المجال العام. لابد أن يصمم مجتمع حقوق الإنسان على حماية حقوق الإنسان الأساسية حتى في أثناء أوقات الأزمات.
رابعاً، يودع بعض المعارضين السجون بناء على اتهامات ملفقة بجرائم لم يرتكبوها قط. في حالات "التلفيق" هذه، تطبق الحكومات قوانين مشروعة مثل النصوص الجنائية ضد السرقة أو القتل. لكن لا توجد أدلة على ارتكاب المدعى عليهم للجرائم. على سبيل المثال، حبس النظام الروسي عدة معارضين بناء على اتهامات قتل ملفقة. واتهم النظام في أذربيجان زوراً عدة معارضين في جرائم مخدرات، واتهمت حكومة بيلاروسيا المستبدة كذباً عدة معارضين بالضلوع في مؤامرة عنف مسلح. مثل هذه القضايا الملفقة تسمح للنظم الأوتوقراطية بالالتفاف حول الضغوط الدولية المتصلة بالقوانين سياسية الدوافع. بما أن السجناء السياسيين في هذه الحالة يساوون بالسجناء الجنائيين، يصبح من الصعب على المدافعين عن حقوق الإنسان الوصول إلى السجناء السياسيين وتبيّنهم. من ثم، من الضروري أن يدقق المجتمع الحقوقي جيداً في الحالات حيث للدولة تاريخ من تلفيق الجرائم.
خامساً، تحرم عدة حكومات المعارضين من حريتهم في غياب أي سند قانوني. إذ تقوم باحتجازهم على ذمة الحبس الاحتياطي لفترات مطولة، أو بدون أجل مسمى. هناك قضايا سياسية من هذا النوع في مصر في عهد السيسي، وفي البحرين في عهد آل خليفة، وفي فنزويلا أثناء رئاسة مادورو. الحبس الاحتياطي على ذمة القضايا يمكن الحكومات الأوتوقراطية من إلقاء اللوم على عدم كفاءة القضاء فيما يخص الحرمان من الحرية لفترات طويلة. في حين يتم تأخير وتعطيل المداولات القضائية عمداً، يتم في النهاية إسقاط الاتهام بملاحقة الأفراد لأسباب سياسية بالقول بأن القضايا لا تزال تحت النظر.
تتم ممارسة أعمال الاعتقال دون اتهامات جنائية على نطاق واسع في معسكرات اعتقال الصين، حيث يُحتجز مئات الآلاف من المواطنين من أقليات عرقية دون اتهامات. تسعى الحكومة الصينية إلى نفي الدوافع السياسية إذ تسمي هذه المعسكرات "معسكرات لإعادة التعليم". يرى المحامون الحقوقيون أن الاحتجاز لفترات طويلة دون الوقوف أمام المحكمة كما يحدث في تلك المعسكرات يعد انتهاكاً خطيراً للعدالة الإجرائية، في مخالفة للحق في المحاكمة العادلة.
تُظهر هذه الاستراتيجيات الخمس أن الحكومات الأوتوقراطية تحاول شرعنة القمع، ومد مظلة القوانين الجنائية بشكل يتجاوز ما تحتمل، وإساءة استخدام الأدلة، وتمديد فترات المحاكمات لحبس الأفراد بدوافع سياسية على ذمة القضايا. كيف يمكننا الوصول إلى المعتقلين السياسيين وتبيّنهم رغم هذه المحاولات الممنهجة لإنكار الدوافع السياسية للاحتجاز؟
أولاً، على المجتمع الحقوقي أن يعرف بهذه الاستراتيجيات لإخفاء الحرمان غير المشروع من الحرية. من المهم فهم أن الإدانة عبر عملية قضائية اعتيادية ليست كافية لأن يكون الحبس قانونياً، نظراً لأن القوانين المنطبقة قد تكون في حد ذاتها منحازة وغير عادلة. من أجل تيسير التعرف على المعتقلين السياسيين، على المجتمع الحقوقي أن يطوّر دليلاً عالمياً إلى "قوانين العار" التي كثيراً ما تُستغل في الحبس السياسي. كل اتهام بناء على أحد هذه القوانين يجب أن يحقق فيه أطراف مستقلون. يلعب فريق الأمم المتحدة العامل المعني بالاحتجاز التعسفي دوراً هاماً في كشف حالات الحرمان من الحرية غير المشروعة هذه. على أن اقتصار موارده يعني التحقيق في مجموعة صغيرة من قضايا الحبس التعسفي. يعمل في الفريق حالياً خمسة خبراء، وهو عدد لا يكفي إطلاقاً للتوصل إلى جميع ضحايا الاحتجاز التعسفي. من الضروري أن تعزز الدول التي تحترم الحقوق من قدرات هذا الفريق العامل وتمكينه من إجراء تحقيقات محايدة على نطاق أعرض. كما أن على المجتمع الحقوقي تعزيز آلية الشكاوى الفردية التابعة للفريق العامل. إن لكل فرد الحق في تحقيق مستقل في عقوبته بالسجن، لكن لابد أن يعرف الأفراد جميعاً بهذا الحق قبل أن يتمكنوا من ممارسته.
تتلاعب الحكومات حول العالم بصياغة القوانين لتبرير الحبس السياسي الدوافع. علينا في مجتمع حقوق الإنسان أن نناوئ هذه المحاولات من خلال تعميم المعلومات المستقلة والأدلة المحايدة لنزع المشروعية عن الحرمان المتعسف من الحرية.