نشرت عدة مقالات مؤخراً، بما فيها على موقع openGlobalRights كان آخرها مقال ف. سوريش التمويل والحريات المدنية، تناقش العديد من القضايا التي تحاصر مجتمع حقوق الإنسان الدولي لعقود وخاصة في الجنوب. وتثير تلك المقالات الشكوك حول شرعية وفعالية منظمات حقوق الإنسان غير الحكومية من خلال مقارنتها بالحركات الشعبية الاجتماعية، وتمجد فضيلة التطوع فوق "الاحتراف"، وتنتقد "تحويل الحركات الاجتماعية إلى منظمات غير حكومية" وتتهمها بالفساد والاعتماد الزائد على التمويل الأجنبي.
لقد شاركت في هذه المناقشات في المنطقة العربية لأكثر من 20 سنة، وأود أن أسجل اعتراضي على بعض الفرضيات التي وردت حول "احتراف" العمل في مجال حقوق الإنسان. لا شك في أن الاشتباك مع هذه التساؤلات من منظور نقد الذات لهو أمر ضروري، ولكن يبدو لي أن بعض (وليس كل) هذه الانتقادات قد تم توجيهها بشكل خاطئ، وربما تضع توقعات كبيرة على العاملين في مجال حقوق الإنسان.
أولا، أنا لا أتفق مع الإفتراض بأن الدفاع الفعال عن حقوق الإنسان يحب ان يكون احد اختيارين: إما أن تكون حركة اجتماعية /سياسية ذات قاعدة شعبية عريضة ملتزمة برؤية بعيدة المدى عن المساواة والعدالة، أو أن تكون لمدافعين محترفين ذوي فكر وظيفي ومؤسسي. يحتاج النضال من أجل العدالة الاجتماعية الاختيارين معاً. يمكن للحركات الاجتماعية بل ويجب عليها أن تتخذ من حقوق الإنسان وسيلة للدعوة الى الديمقراطية والى نظام اجتماعي أكثر عدالة واتزاناً وفي الحقيقة حبذا لو قام الجميع بذلك. مقاربة كهذه من قبل الحركات الاجتماعية يمكن أن تتعايش جنباً إلى جنب مع المدافعين الحقوقيين "المهنيين" الذين يعملون على حالات محددة كالتعذيب أو حقوق التملك أو الإخلاء القسري أوحرية التعبير. فلهم أدوار مختلفة ومتكاملة.
إن ما يميز حقوق الإنسان عن النظم الأخلاقية الأخرى (سواء سياسية أو اجتماعية أو دينية...إلخ) هو كونها قانونية. فهي تتستند الى القانون والمناصرة القانونية في الدفاع عن الأشخاص والمجتمعات. وفي حين أنه من المهم غرس قيم حقوق الإنسان في جميع جوانب العمل الاجتماعي والسياسي، ما يجعل منها حقوق هو ضمانها في القانون وامكانية المساءلة والمحاسبة، بغض النظر عن وجهات النظر السياسية الشخصية لأي من السلطات أو الدعاة. وهذا يتطلب طائفة مختلفة من المهارات، والتي باعتقادي لا تقل أهمية عن مهارات التعبئة الاجتماعية والعمل الإجتماعي. والقول بأن أنواع معينة من المعرفة والمهارات تعد أفضل أو أكثر شرعية أو أهمية من غيرها لهو خطأ جوهري. نحن نختار أين نركز جهودنا بناء على ميولنا وتفضيلاتنا وتقديراتنا الشخصية لما هو أكثر فاعلية، ونعم، استناداً أيضاً الى آراءنا السياسية.
كما وأنني لا اتفق مع رأى سوريش بأن العمل على القضايا الفردية يؤدي إلى "لاتسييس لقضايا حقوق الإنسان المزمنة حيث أنها "ترتكز في المقام الأول على الحوادث السطحية الأقل إثارة للجدل بدلاً من الانتهاكات المؤسسية من قبل الشرطة وسلطة الدولة....َ [وأمثلة أخرى]." فمن واقع خبرتي فإن العمل القانوني على القضايا الفردية يشتمل غالباً على دعاوى للتعديلات التشريعية أو تشريع جديد (مثل تجريم العنف ضد المرأة)، والتحسينات الاجرائية (مثل اصلاح قطاع الأمن ووضع آليات الرقابة)، وحتى التعليقات على الدستور والدعوة لتعديله. ومعظم هذه المنظمات تشارك ايضاً في الجهود المكثفة لتعليم حقوق الانسان لتتحدى الأعراف والتقاليد السائدة والنظم الاجتماعية التي تديم اللامساواة بما في ذلك الممارسات الاجتماعية الضارة كالختان والنظم الأبوية وغيرها من القضايا في الهيكلية المجتمعية. فهي "منظمات محترفة" صغيرة قد لا تصل الى قدرة الحركات الاجتماعية على التعبئة ولكنها توفر التحليل القانوني اللازم لهذه الحركات الاجتماعية.
أوافق على أن هناك اخطار تواجه مدافعي حقوق الانسان وبالأخص الاعتماد شبه الكلي على التمويل الاجنبي وتأثيره على الأجندات المحلية والوطنية لحقوق الانسان. وعادة ما تساهم أولويات المانحين الأجانب في وضع أجندة قد لا تتسق دائماً مع الأولويات على المستوى الوطني. وبالفعل فإن هناك سياسة في العمل الخيري والعدالة الاجتماعية، وهذا أحد الأسباب التي دعت عدد منا منذ خمس سنوات لتأسيس الصندوق العربي لحقوق الإنسان، وهي الجهة المانحة الاقليمية الاولى من نوعها لحقوق الانسان. حتى الآن مازلنا لا نستطيع أن نقترب من حجم التمويل القادم من الجهات المانحة من أوروبا وأمريكا الشمالية، ويعود هذا جزئياً الى ان الجهات الثرية الوطنية التي قد تتبرع لا تزال ترتاب من الارتباط بما تعتبره قضية "سياسية". كما وتتطلب معظم البلدان في منطقتنا إذن حكومي لجمع التبرعات محلياً اضافة الى تلقيه من الخارج. ولكن هذه القضايا تعد أعراض لمشاكل اجتماعية وسياسية أكبروليست مشاكل نابعة من كون تلك المنظمات "مهنية" او "محترفة".
أنا لا انكر اتهامات بين الحين والاخر بالفساد او اختلاس الأموال أو الإفراط في الإنفاق على الرواتب والمصروفات الإدارية بدلا من "مساعدة ضحية الاغتصاب أو الناجي من التعذيب" كما يقول سوريش. الفساد يحدث بالفعل ويتطلب رقابة يومية ولكنه ليس مشكلة قاصرة على تلك المنظمات "المحترفة" المعتمدة على التمويل الأجنبي. نرى ذلك في الحركات الاجتماعية وفي النقابات والاحزاب السياسية (بالطبع) ومنظمات التنمية وكذلك في المنظمات المانحة. فهو سمة بشرية يجب محاربتها بغيرها من السمات البشرية الأخلاقية الأكثر سمواً. ولكن يبدو لي ان الإشارة باصابع الاتهام تجاه المنظمات المعتمدة على المانحين ووصفها بالفساد المتوطن، مع بعض الاستثناءات، لهو امر غير عادل.
وختاماً، إن الافتراض بأن الحركات الاجتماعية يمكن بشكل ما أن تكون نظيفة او بريئة من التلاعب السياسي وأن تعمل ببساطة على ركيزة أخلاقية ليس بالضرورة صحيح. ففي المنطقة العربية، بدأت الكثير من مجموعات حقوق الانسان كأعضاء في منظمات تبنت نموذج الحركات الاجتماعية. ولكن سرعان ما ظهر الصراع من أجل التحكم السياسي داخل تلك المنظمات -- ولربما بسبب انعدام المشاركة السياسية الحقيقية في المنطقة، -- مما أدى إلى الشلل وانعدام الكفاءة والفعالية. وفي النهاية اختارت تقريبا كل الجهات الفاعلة في مجال حقوق الانسان النموذج المؤسسي "المحترف" بمجلس إدارة وأمناء يتم اختياره ذاتياً حيث يقومون بعملهم بعيداً عن التدخل السياسي الحزبي. وبالرغم من عملهم الجيد، يستمر الجدال حول "فشلهم" في إنشاء ودفع الحركات الاجتماعية باتجاه حقوق الانسان. ولكن العكس قد حصل، فقد شهدنا المزيد من المنظمات التنموية مثل شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية تتبنى لغة حقوق الانسان والنهج المبني على الحقوق.
لقد قامت الثورات العربية في مطلع عام 2011 بتنشيط الحركات الاجتماعية والسياسية في المنطقة خاصة بمشاركة الشباب واستخدامهم للأدوات التكنولوجية. ولكن لم تنجح بعد تلك الحركات في خلق بديل ديمقراطي لدكتاتوريات الماضي برغم أنها مازالت تحاول. على العكس من ذلك، فقد اصبحت تحت تهديد متزايد، وتم سجن العديد من قادتهم لمجرد التعبير عن رأيهم والتظاهر، وخاصة في مصر. ولكن في الوقت نفسه، تواصل منظمات حقوق الانسان "المحترفة" الدفاع عنهم والتعبير عن رؤية للمجتمع قائمة على القانون الذي يجب ان يضمن العدالة الاجتماعية والسياسية والقانونية. تحتاج الحركات الاجتماعية أن تتحالف مع تلك المنظمات بدلاً من منافستها حيث ان كل واحدة تحتاج الأخرى.