لسنوات عديدة، أدت الآثار المترتبة على احتمالية الاعتراف بفلسطين كدولة مراقب في الأمم المتحدة إلى مناقشات حامية حول العالم. ودارت بعض الحجج حول كيف يمكن أن يؤثر هذا الاعتراف على عملية السلام المحتضرة والميؤوس منها أصلاً. كما ودار الكثير من النقاش أيضاً عن الأبواب التي ستنفتح أمام الدولة الفلسطينية من حيث حقوقها والتزاماتها القانونية كعضو معترف به في المجتمع الدولي. وانتقدت إسرائيل والولايات المتحدة هذا التوجه بشدة، وهددتا من التداعيات إذا تم منح هذه الصفة.
في نهاية الأمر، سعت السلطة الفلسطينية الى ذلك وحازت على الاعتراف من الأمم المتحدة في عام 2012، كدولة مراقب دائم غير عضو، ووقع القليل جداً من التداعيات. غالبية الدول تعترف الآن بفلسطين، ولكن ليس من بينها ما يكفي من الدول "المهمة"، وما زلنا في نفس المكان الذي كنا فيه من قبل.
هل سيصبح الأمر كذلك غيرذات أهمية أيضاً إذا انضمت فلسطين إلى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية؟ لا، بل من الأهمية بمكان انضمام السلطة الفلسطينية إلى المحكمة الجنائية الدولية لتثبت أن القانون الدولي لا يزال يحتفظ بأهميته وتأثيره، وذلك في مواجهة كل الأدلة التي تثبت عكس ذلك.
لقد تعرض رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لضغوط شديدة وتهديدات حتى لا ينضم إلى معاهدات حقوق الإنسان أو النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وقد استغل لحظة سياسية وقام في أبريل عام 2014 بتوقيع أوراق الانضمام إلى جميع المعاهدات الرئيسية لحقوق الإنسان، فيما عدا نظام روما الأساسي. بعد الحرب الأخيرة على غزة في شهري يوليو وأغسطس، عادت إمكانية الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية مرة أخرى الى الطاولة. وقد أدى ذلك إلى نفس المناقشات الحادة وضغط أشد على الفلسطينيين (وعلى مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أيضاً).
إذا ما انضمت فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية، بالتأكيد سوف تقوم الولايات المتحدة، وربما أيضاً دول أوروبية عديدة، بمعاقبتها – سواء طلبت أو لم تطلب في الواقع إجراء تحقيق في جرائم الحرب الإسرائيلية وجرائمها ضد الإنسانية. كما وسوف ترد إسرائيل بمزيد من تصعيد لسياسات الضم وتشديد سيطرة الاحتلال – وكأنها تحتاج إلى أي عذر لتفعل ذلك – وبأغلاق الفرص أمام إمكانية للتوصل إلى حل سلمي للصراع.
وفي هذه الحالة، لا تجرؤ الدول على قول ما هو واضح: أن القانون الدولي لا جدوى منه على الإطلاق إذا ما استمر تنفيذه بشكل انتقائي في نظام دولي منحاز في أساسه لصالح القوى العظمى.
تثير قضية انضمام فلسطين للمحكمة الجنائية الدولية مسألة مهمة، ولكنها لا تتعلق بعملية السلام، اذ أن هذا لا يجدي فتيلاً. بل يدور السؤال حول ما إذا كان القانون الدولي محترماً وهو لا يزال أداة في أيدي القوى العظمى. هذا السؤال يذكرنا بقصة ملابس الإمبراطور الجديدة: الجميع في الغرفة يعرفون أن الإمبراطور عار بالفعل، ولكن لا أحد يجرؤ على قول ذلك. وفي هذه الحالة، لا تجرؤ الدول على قول ما هو واضح: أن القانون الدولي لا جدوى منه على الإطلاق إذا ما استمر تنفيذه بشكل انتقائي في نظام دولي منحاز في أساسه لصالح القوى العظمى.
وهذا بالطبع ليس خبراً جديداً. لقد طالما أشار النشطاء والمحللون إلى هذه المشكلة ولسنوات عديدة، وبينما زاد إحباطهم بسبب الظلم، الكثير منهم ألقوا اللوم على النظام الذي تم تركيبه بصعوبة بالغة، وكتبوا عن فشل أنشطة حقوق الإنسان وإجراءات القانون الدولي. ولكن تصرفات الدول هي التي ستحدد ما إذا كان سيتم فضح عري الإمبراطور أم لا. حتى الآن، سلوك الدول القوية هو مواصلة الإصرار على الإجراءات القانونية، وأهمية مكافحة الإفلات من العقاب، ومسؤولية حماية المدنيين، وحقوق المرأة، وقضايا أخرى لا حصر لها، ولكن القليل من هذه الدول تطابقت أعمالها مع تلك الأهداف النبيلة.
الفلسطينيون جميعاً على دراية تامة بتجاهل القانون الدولي: مجموعة قرارات مجلس الأمن قد تم رفضها أو تجاهلها؛ الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن الجدار، بعثات تقصي الحقائق لمجلس حقوق الإنسان وتقاريرها، التي كان ينبغي أن تدعو إلى إجراء تحقيقات وعقد محاكم عن جرائم الحرب، وتقارير عديدة من الهيئات المنشأة بموجب معاهدات حقوق الإنسان والمقررين الخاصين للأمم المتحدة والخبراء المستقلين لحقوق الإنسان وجميعها لا تزال في السجل الرسمي لعقود. كانت الاستجابة صمتاً مدوياً.
يجب أن يتم تفعيل وإعمال قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي إعمالاً تماً. لا يوجد خيار في هذه المسألة، لأنه في غيابها يكون الرجوع إلى شريعة الغاب أمراً لا مفر منه. وهذا هو بالضبط ما نراه في بلدان عديدة، وخاصة في الشرق الأوسط. العنف والفوضى في العراق وسوريا وأماكن أخرى هي نتيجة مباشرة للتجاهل التام للقانون الدولي وحقوق الإنسان، وجميع الدول مسؤولة، وخاصة تلك التي لديها القدرة على التأثير على القرارات في الساحة الدولية. لذلك، يجب الضغط على المجتمع الدولي حتى يأخذ القانون مجراه.
لقد اخذت جماعات المجتمع المدني على عاتقها محاولة القيام بذلك. منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية مثل مؤسسة الحق والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان في غزة، والمحامين الدوليين المتضامنين معهم، حاولوا تحريك محاكمات جرائم الحرب في إطار الولاية القضائية العالمية في بلدان عديدة في جميع أنحاء العالم. كما وإن الحركة العالمية للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، مثل حركة مناهضة الفصل العنصري، تتخذ من تنفيذ القانون الدولي أساساً لجهودها لحماية الفلسطينيين تحت الاحتلال، ولممارسة الضغط على إسرائيل والمجتمع الدولي.
Aj Jazeera English/Flickr (Some rights reserved)
The sun sets on another day in Gaza while the skyline burned. It is crucial that Palestinian Authority does join the ICC to show, in the face of all evidence to the contrary, that international law matters.
وفي الوقت نفسه، لا تزال الدول تدفن رؤوسها في الرمال وتمجد الإمبراطور العاري. وقد تكون حكومة فلسطين مساهمة في ذلك أيضاً، حيث أنها تعاملت مع قضية الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها ليست أكثر من مناورة وورقة ضغط لكسب نقاط سياسية في المفاوضات الجوفاء. بل إنه كان يوجد بعض المسؤولين الفلسطينيين الذين ينشدون نفس النغمة الإسرائيلية، وتحديداً، قولهم أن الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية هو "خطر" على فلسطين بسبب احتمال محاكمة أعضاء حركة حماس، على الرغم من أن حماس قد وافقت على هذه الخطوة. شهدنا تصاعد الطلبات الشعبية في فلسطين للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية أثناء وبعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة. على الرئيس عباس الوفاء لشعبه باتخاذ هذه الخطوة، وخاصة لآلاف الضحايا في غزة، بغض النظر عن التكاليف السياسية لبعض الفلسطينيين.
إذا ما انضمت فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية، يمكن أن تكون هي الصوت الوحيد الشجاع الذي يصرخ بأنه ينبغي أن يغطي الإمبراطور عورته. سوف تواجه ضغوطاً سياسية هائلة لعدم القيام بهذه الخطوة، وحتى أكثر من ذلك ألا تطالب بإجراء تحقيق، وستواجه ضغوطاً أكثر من هذا بكثير إذا أشار هذا التحقيق إلى إجراء محاكمات. ولكن الأهداف الأخلاقية أسمى من هذه السياسات بكثير وتتطلب القيام بهذه الخطوة، كما وتتطلبه رؤية للمستقبل تحت ظل نظام قانوني دولي يتيح الفرص المتكافئة للقوي والضعيف على حد سواء، وحيث تنفذ الدول القوية ما تدعي أنها تتمسك به وتدعو إليه. خلاف ذلك سيظل الإمبراطور في تبختره واختياله، سعيداً في شعاراته العارية.