دستورية الحقوق الاجتماعية في أيرلندا بين الحربين: نحو تاريخ شعبي

/userfiles/image/Murray_Image_07-12-21.jpg

تتحدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التصنيف. إنها في تقديري ما أسماه و. ب. غالي بمسمى "مفاهيم متنازع حولها من حيث التعريف". وهذا يعني أننا يمكننا فهم ما تعنيه الحقوق الاقتصادية عندما نقارن استخداماتنا للمفهوم الآن باستخداماته في الماضي.

إن اعتبار الحقوق الاجتماعية-الاقتصادية ظاهرة تاريخية متغيرة لها معاني تختلف من عصر لعصر ومن سياق لآخر، هو أمر يسمح لنا بمساحة أرحب للتقصي التاريخي. من المهم بصفة خاصة أثناء التأريخ الناقد والمنحاز للعدل أن نعرف أيّ أصوات هي تلك التي نختار الاستماع إليها.

تعد أيرلندا بين الحربين العالميتين دراسة حالة ثرية للحركات الشعبية التي ناضلت لأجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية "من أسفل".

في سياق موجة ثورية عالمية، وخلال عقد من الحراك الشعبي سبقه مباشرة تكوين الدولة الأيرلندية المستقلة الحرة في 1922. إن الفهم التاريخي المهين لهذه الفترة يركز على الحركة القومية وما يتصل ببناء الدولة على وجه التحديد، مع التركيز أيضاً على حرب العصابات التي خاضها الجيش الجمهوري الأيرلندي للاستقلال عن المملكة المتحدة وصعود الحزب القومي الجماهيري "شين فين".

لكن الأمر الأقل ذيوعاً هو السلطة التفاوضية الوطنية والقدرة العسكرية التي كانت قائمة على أكتاف التنظيم العمالي والاضطرابات في المناطق الريفية. ففي الفترة من 1918 إلى 1923، تم تنظيم خمسة إضرابات عامة و18 إضراباً محلياً. سيطر العمال على السلطة في أكثر من 80 مكان عمل، فخلقوا بعض أول السوفيتات المُعلنة خارج روسيا من بعد 1917. وفي المناطق الريفية، تصاعدت الإضرابات المحلية المتصلة بقضايا الإيجار والأرض. تم انتخاب شبكة شعبية، وظهرت محاكم محلية، وفي بعض الأحيان أقرت قواعد جديدة لتملك الأراضي.

وعلى مستوى العالم، بدأت الحركات المعارضة للنظم في تحديد شكل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية. فالعديد من المنظمات العمالية والنقابات، ومنها تلك التي وضعت مسودة دستور الجيش الشعبي الأيرلندي (1913)، ألهمها النشاط النقابي والعمالي الذي ظهر في أيرلندا وظهر في نفس الوقت في أوروبا الغربية الكاثوليكية، في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، وفي الولايات المتحدة أيضاً.

على أن تأسيس الدولة الأيرلندية الحرة في 1922 كان علامة على نهاية التجارب الديمقراطية الراديكالية. أصبحت النقابات اليسارية والحركات النسوية والجمهوريون الاشتراكيون الآن بصدد عداوة من البرجوازية الكاثوليكية المتجذرة ومن الكنيسة الكاثوليكية المهيمنة.

لكنهم استمروا في النضال. وأثناء الكساد الكبير في الثلاثينيات، طرأت حركات مقاطعة جماعية لنظام الأراضي في المناطق الريفية، وخرجت حملة النقابيات الأيرلنديات في مدينة دبلن ضد أصحاب الشقق في المناطق الشعبية، وامتدت الإضرابات التي شارك فيها آلاف العمال في قطاعات النقل والمواصلات والإنشاءات في شتى أنحاء البلاد. إن الخطابات اليسارية المعاصرة الخاصة بالحقوق الاجتماعية-الاقتصادية – كما وردت في دستور ساور إيري (1931) أو في برنامج المؤتمر الجمهوري (1934) – تعكس بشكل أدق الخطاب البلشفي أكثر مما تعكس تجارب العمل النقابي الخاصة بسيطرة العمال على أماكن العمل.

وفي أيرلندا، كما حدث في كل مكان، حدد بناة الدولة الأمة شكل الدستورية الخاصة بالحقوق الاجتماعية، رداً على الحركات المعارضة للنظام.

أثناء تشكيل دستور الدولة الأيرلندية الحرة في 1922، دفعت الثورة في المناطق الريفية فقهاء القانون الاجتماعيون مثل كليمنز فرانس وألفريد أوراهيلي إلى الدفع بـ "الحقوق الاقتصادية" لتنظيم المضاربة بالأراضي ولوضع تدابير لإعادة توزيع الثروة. وفي مناقشات الجمعية الدستورية، طالب عضو حزب العمال ت. ج. أوكونيل بحقوق الأطفال في الغذاء والملبس والمأوى والتعليم.

وفي سياق إعداد الدستور الأيرلندي لعام 1937، خرجت الإضرابات المُزلزلة فدفعت كل من رئيس الوزراء إيمون دي فاليرا ورجال السلطة والدين إلى ضم نصوص دستورية حول الحقوق الاجتماعية-الاقتصادية، تتعلق بإعادة توزيع الأراضي وتنظيم نظام الائتمان والحقوق الخاصة بالرفاه.

لكن أثناء صياغة النصّين، تم حذف الكثير من الحقوق الاجتماعية-الاقتصادية. من المذهل أن الأرشيف يُظهر كيف أعاد المشرعون عمداً نصوص دستورية قوية فيما يخص الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، واستبدلوا التزام الدولة بها بناء على العدالة، بنمط يتلخص في "أبوية" الدولة بناء على تقديم المعونات الخيرية "إلى الشرائح الأضعف".

يمكن مقارنة تجربة أيرلندا بين الحربين فيما يخص التعامل مع الحقوق الاجتماعية-الاقتصادية بصناعة الدساتير على المستوى الدولي. عملية صناعة الدستور في دبلن عام 1922 ضمت خطابات حقوق اجتماعية-اقتصادية مشابهة للغاية لتلك التي تم الدفع بها فيما يخص إصلاح الأراضي بإقليم كويريتارو في سياق الدستور المكسيكي لعام 1917، ودولة الرفاه في فيمر بألمانيا عام 1919.

في عام 1937، شابه الخطاب الحقوقي الاجتماعي الاقتصادي الذي اقترحه رجال الدين المشاركين في صياغة الدستور – واعتمد على – الدساتير الكاثوليكية والسلطوية في البرتغال (1933) والنمسا (1934) وبولندا (1935). تخيل عدة رجال دين أيرلنديين كاثوليك بالتزامن نسخة أكثر برودة وإجحافاً من تلك الخاصة بدكتاتور البرتغال سالازار إبان "الجمهورية الثانية". أثر رجال الدين على صياغة الدستور، بحيث احتوت على خطابات قومية – وكاثوليكية في أغلب المواطن – لا سيما في المواد المتصلة بالأسرة.

على أن المؤسسات السياسية القائمة ومؤسسات السوق ظلت بعيدة عن الدستورية الاجتماعية، لم تمسها الأخيرة. إن "المبادئ التوجيهية" غير الملزمة الواردة في دستور 1937 الأيرلندي تقدم خطاباً أجوف حول الحقوق الاجتماعية الاقتصادية، وهي الطريقة التي أعيد إنتاجها فيما بعد في الهند وبابوا غينيا الجديدة ونيجيريا في مرحلة ما بعد الاستقلال.

اقتفت دستورية الحقوق الاجتماعية الاقتصادية الأيرلندية أثر المسار الما بعد كولونيالي المحافظ الذي انتقده فرانز فانون، وفيه يأتي الحزب القومي بدلاً من الحركة الشعبية الاجتماعية المعارضة للاستعمار. بالأساس يحدث تواطؤ بين "بناة الدولة" المقبلون، والسوق العالمية.

في كل من 1922 و1937، أرضى القضاء على الحقوق الاجتماعية الاقتصادية القوية والصريحة تفضيلات وزارة المالية لتقليل إنفاق الدولة لأقصى درجة. وبالنسبة إلى مصالح المصرفيون وكبار المزارعون في أيرلندا، كان تقليل المسؤوليات الخاصة بالضمان الاجتماعية والتعليم المترتبة على الكنيسة الكاثوليكية مسألة تبدو مُراعية لأصول الدين وفعالة اقتصادياً في الوقت نفسه. من ثم أعادت الدولة الأيرلندية إنتاج علاقات اقتصادية هامشية مع المملكة المتحدة. واستمرت طويلا آثار غياب النموذج الحقوقي التضامني في السياسات الاجتماعية.

وإلى الآن، دأبت الدولة الأيرلندية على تفسير الحقوق الاجتماعية الاقتصادية بصفتها تعبير عن استحقاق رسمي يتصل بالخدمات العامة، يعتمد على النمو الاقتصادي وليس بناء على معايير حقوق الإنسان الثابتة. كما عارضت الدولة تقديم سبل فعالة للتصدي لادعاءات الانتهاكات لهذه الحقوق المرفوعة من مجموعات أو أفراد. ولم يكن مدهشاً أن تكون فكرة الاضطرار إلى "النضال" و"الكفاح" من جانب المجموعات المختلفة في المجتمع من أجل حقوقها، متسقة مع أفكار سياسة التنمية الاجتماعية الأيرلندية.

وهكذا لا تزال الدستورية في فترة بين الحربين موضع نزاع وخلاف. فالأحزاب السياسية الحالية وحركات المجتمع المدني مستمرة في الحشد من أجل الحماية الدستورية للحقوق الاجتماعية الاقتصادية، لا سيما إنهاء تسليع المياه والسكن. ويستمر الناجون من ملاجئ ماجدالين والمدارس الصناعية في المطالبة بالعدالة بعد انتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة التي ارتكبتها بحقهم الكنيسة والدولة. تُظهر معاملة الدولة لطالبي اللجوء بوضوح تام لأي مدى يستمر تأثير ماضي أيرلندا على حاضرها. ويُظهر التاريخ الشعبي أن الأمور لم يكن من الواجب الضرورة أن تسير في ذلك الاتجاه، ولا يجب أن تستمر في السير فيه.

التاريخ الشعبي "من أسفل" يوضح ما اسماه موراي بوكشين بالتمييز بين "السياسة" (المشاركة المدنية المطلوبة لتحديد كيف نعيش حياتنا معاً بأفضل شكل) و"الدولة" (تقنيات القمع والتلاعب المطلوبة لتكريس الهيراركية والاستغلال والقمع). وبهذا المعنى، فإن حركات الماضي تبدو وكأنها كانت تسير على مسار سياسي من أجل إعمال الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.

من خلال العودة إلى حياة وحركات المستلبين والمظلومين، يسلط التاريخ الشعبي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية الضوء على أشكال العدالة التي تحراها المجتمع، ويضيء لنا طريق إعمال الحقوق ضد وما وراء مؤسسات السلطة المتجذرة التي تشكل عالمنا.

إن التحركات المباشرة مثل المقاطعة والإضراب والحكم الذاتي المجتمعي تتيح تصور بديل عن الذات والمواطنة والحقوق، وهي تفترض حرية الأفراد وقدرتهم على إدارة الشأن الاجتماعي بشكل مباشر وأخلاقي وعقلاني. في الوقت الحالي، نحن بصدد أزمات عالمية متصلة، للرأسمالية واللامساواة الاجتماعية، والانهيار البيئي، ومن ثم يمكننا الرجوع إلى الحركات التاريخية التماساً للحكمة والإلهام. في النهاية، يعود إلينا اختيار "طبعة" الحقوق الاجتماعية الاقتصادية هي سوف تسود.